في مشهد يتكرر كلما اقتربت الأحداث من حدودها الشرقية، وجدت مصر نفسها من جديد أمام موجة من الانتقادات الإعلامية الدولية بعد قرارها السيادي بترحيل عشرات النشطاء الأجانب القادمين ضمن ما يُعرف بـ”قافلة الصمود”، وهي تحرك شعبي رمزي – وفقًا للمنظمين – قاصد غزة مرورًا بالأراضي المصرية. لكن حين تُفكك التفاصيل وتُحلل لغة الخطاب الإعلامي، يظهر جليًا أن القافلة لم تكن مجرد مبادرة إنسانية، بل حملة منظمة وممنهجة تهدف إلى إحراج مصر دوليًا.
الواقعة كما رواها الإعلام العالمي
في 12 يونيو 2025، نقلت وكالة رويترز أن مصر قامت بترحيل عشرات النشطاء الأجانب الذين كانوا ينوون المشاركة في مسيرة تضامنية مع غزة. الوكالة نقلت رواية المنظمين، دون إشارة واضحة إلى خلفيات المشاركين أو الجهات الداعمة للمسيرة، واكتفت بوصفها بـ”التحرك السلمي”. ما غاب عن التقرير هو تسليط الضوء على أن دخول أي مجموعات أجنبية إلى مناطق حدودية شديدة الحساسية، دون تنسيق مسبق وتصاريح أمنية، يعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي لأي دولة.
أما موقع “باب نات” التونسي، فقد قدّم القافلة على أنها “مبادرة شعبية مدنية بحتة” تضم أفرادًا من دول المغرب العربي ومنظمات مجتمع مدني. غير أن التقرير نفسه أقر بأن القافلة لا تحمل مساعدات إنسانية ولا تسعى إلى كسر الحصار عمليًا، بل تكتفي بـ”رمزية التحرك” و”الضغط الشعبي”. وهو ما يطرح تساؤلًا محوريًا: كيف يمكن لتحرك لا يقدم دعمًا فعليًا أن يلقى هذا الزخم الإعلامي الهائل، دون رعاية خفية من جهات تسعى لاستخدامه كورقة سياسية ضد مصر؟
في 12 يونيو، نقلت وكالة AP News أن مصر منعت النشطاء من الوصول إلى رفح، موضحة أن غالبيتهم لم يحصلوا على التصاريح الأمنية اللازمة. الوكالة ذكرت أن إسرائيل وصفت المشاركين بأنهم “جهاديون”، وهو وصف مرفوض لكنه يكشف بوضوح عن طبيعة التوترات الإقليمية التي تحيط بمثل هذه المسيرات. مصر، التي تتحمل العبء الأكبر في تأمين معبر رفح الحدودي، لا يمكنها أن تسمح بتحركات غير منسقة قد تفتح الباب أمام اختراقات أمنية أو استغلال سياسي.
أما صحيفة El País الإسبانية، فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، متهمةً مصر بـ”عرقلة مسيرة دولية سلمية” تضم مشاركين من 54 دولة. وادعت الصحيفة وجود اعتقالات جماعية وتأخير متعمد في منح التصاريح، بل واتهمت القاهرة بالمماطلة رغم تقدم المنظمين بطلبات رسمية منذ شهرين. لكنّ الصحيفة ذاتها كشفت، من دون أن تقصد، عن جوانب مريبة في التنظيم، مثل استخدام تطبيقات مشفّرة كـ”تيليغرام” لتنظيم التحركات، وتقديم إرشادات في مدريد حول كيفية التملص من الرقابة المصرية. فهل ما زال بإمكاننا وصف هذه القافلة بأنها “سلمية وعفوية”؟
مصر… السيادة لا تُجزأ
إن الإصرار على تنظيم دخول أي قوافل أو مسيرات إلى المناطق الحدودية، ليس تعنتًا ولا تجاهلًا للمعاناة الإنسانية في غزة، التي لا تنكرها القاهرة، بل هو ممارسة طبيعية لحق أي دولة في حماية أمنها القومي. ومع أن المنظمين أكدوا احترامهم للسيادة المصرية، فإنهم في الوقت ذاته لم يتوقفوا عن إطلاق التصريحات في وسائل الإعلام ضد الدولة المصرية، متهمين إياها بالعداء للتحركات الإنسانية.
كيف وصلت هذه القافلة لكل هذا الانتشار؟
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه اليوم هو: كيف تمكنت “قافلة رمزية” غير تابعة لأي منظمة دولية رسمية من الوصول إلى عشرات وسائل الإعلام الغربية والوكالات العالمية، والتأثير في الرأي العام بهذه السرعة؟
الإجابة ربما تكمن في ما لم يُذكر: تنسيق إعلامي محكم، دعم لوجستي خفي، وربما رعاية سياسية من أطراف ترى في مصر العقبة الأخيرة أمام تمرير أجندات معينة في ملف غزة. التمويل الجماعي، اللقاءات التحضيرية في عواصم أوروبية، استخدام تطبيقات مشفّرة، كلها مؤشرات تثير الريبة وتُلقي بظلال الشك على الطابع “الشعبي والعفوي” للقافلة.
التضامن لا يكون على حساب سيادة الدول
تضامن الشعوب مع القضايا الإنسانية أمر محمود، لكن حين يتحول هذا التضامن إلى أداة ضغط على دولة مثل مصر، التي تتحمل وحدها مسؤولية إدارة معبر غزة من جهة غير محتلة، فإن الأمر يخرج من إطار النُبل إلى منطق الاستغلال السياسي. مصر لم تغلق المعبر في وجه المساعدات، ولم تقف يومًا ضد شعب غزة، بل هي الدولة الوحيدة التي فتحت معبرًا بريًا له في ظل الحصار. ولكنها، في ذات الوقت، لن تقبل أن تكون ساحة لتجاذبات دولية أو لتجمّعات تخترق سيادتها تحت شعار “الإنسانية”.