تُعد بطولة كأس العالم ليس مجرد بطولة رياضية ينتظرها الملايين كل أربع سنوات، بل هي حدث عالمي ضخم يتقاطع مع السياسة والاقتصاد والثقافة، و منذ انطلاق كأس العالم عام 1930، استُخدم المونديال أكثر من مرة كأداة سياسية، سواء من قِبل أنظمة تبحث عن شرعية داخلية أو دول تسعى لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.

أبرز الأمثلة التاريخية تجلّت في نسخة الأرجنتين 1978، وقتها كانت البلاد تعيش تحت حكم عسكري دموي، تخللته انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان واختفاء الآلاف قسريًا، ورغم ذلك، استغل النظام الفوز بالبطولة لتصدير صورة وطنية زائفة للعالم، الجماهير المحتشدة في الملاعب صُوّرت كدليل على "الوحدة الوطنية"، في حين كانت السجون السرية مكتظة بالمعارضين.

وقد علق المحلل السياسي الأرجنتيني ريكاردو لونا على ذلك قائلًا: "المونديال كان بمثابة ستار دخاني يخفي وراءه واقعًا مظلمًا؛ لكنه منح النظام بعض الشرعية المؤقتة".

مرورًا بإيطاليا في 1934 تحت حكم موسوليني، نجد أن الديكتاتور الفاشي استغل المونديال لإظهار قوة بلاده وإحكام قبضته على الجماهير، حيث اعتُبر الفوز وقتها رمزًا لانتصار الفاشية، وحتى ألمانيا النازية في أولمبياد برلين 1936 -رغم أنها ليست كأس عالم- كانت مثالًا صارخًا على توظيف الرياضة سياسيًا.

في العصر الحديث، استضافت روسيا كأس العالم 2018 وسط مقاطعة دبلوماسية من بعض الدول الغربية على خلفية أزمات سياسية، ومع ذلك، اعتُبر نجاح التنظيم الروسي رسالة إلى الداخل والخارج بأن موسكو قادرة على كسر العزلة، صحيفة "الجارديان" الإنجليزية وصفت البطولة حينها بأنها "انتصار للكرملين".

أما مونديال قطر 2022 فكان نموذجًا معاصرًا لاستخدام الرياضة كقوة ناعمة، الدولة الخليجية الصغيرة استثمرت مليارات الدولارات ليس فقط في الملاعب والبنية التحتية، بل في إعادة رسم صورتها الدولية، ورغم الجدل الواسع حول ملفات حقوق العمال وحرية التعبير، نجحت قطر في جذب أنظار العالم إليها على مدار شهر كامل، وأكد حينها الدكتور محمد السبيعي، أستاذ العلاقات الدولية: "قطر لم تكن تبحث فقط عن استضافة بطولة، بل عن تثبيت مكانتها كفاعل سياسي واقتصادي مؤثر في المنطقة والعالم".

المونديال تحول أيضًا إلى ساحة صراع غير مباشر بين القوى العالمية، شركات الإعلام والرعاة يستخدمونه كمنصة اقتصادية، في حين ترى فيه الحكومات فرصة لبسط نفوذها أو تحسين صورتها؛ لكن في المقابل، لم تخلُ البطولة من احتجاجات سياسية؛ من رفع شعارات حقوقية في المدرجات إلى النقاشات الحادة حول استغلال العمالة المهاجرة.

الجماهير من جانبها تعيش البطولة كعيد كروي فمع حلول يوم 18 ديسمبر الذي شهد المباراة النهائية يحتفل به وسائل الإعلام القطرية مع الجمهور القطري في إشارة إلى قيمة التاريخية للمونديال لقطر.

ويظل كأس العالم حدثًا رياضيًا ذا طبيعة سياسية بامتياز، من الأرجنتين إلى قطر، أثبتت النسخ المتتالية أن البطولة ليست مجرد مباريات، بل مسرح عالمي تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.