في مشهد يتكرر داخل الحياة السياسية المصرية، يتجه عدد من الوزراء والمسؤولين البارزين إلى مغادرة مناصبهم التنفيذية، ليس بدافع الانسحاب من المشهد، بل انتقالًا إلى مواقع دولية مرموقة، تعكس ثقة المجتمع الدولي في كفاءاتهم، وتُعزز من الحضور المصري في المحافل العالمية. هذه التحولات تمثل إعادة تموضع للأدوار، من الخدمة في الداخل إلى تمثيل مصر في الخارج، مع الحفاظ على مسار يخدم السياسة الخارجية ويواكب طموحات الدولة في تدويل خبراتها.

 

من وزارة البيئة إلى منصب أممي

أحدث هذه النماذج كانت في يوليو 2025، حينما أعلنت الدكتورة ياسمين فؤاد استقالتها من منصب وزيرة البيئة، بعد اختيارها أمينة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، خلفًا للألماني إبراهيم ثياو. جاء هذا التعيين تتويجًا لمسيرة مهنية امتدت لسنوات في مجالات البيئة والتنمية المستدامة، وبرزت بشكل خاص خلال مشاركتها الفعّالة في قمة المناخ COP27 التي استضافتها مصر في شرم الشيخ عام 2022.

 

وزارة الخارجية المصرية وصفت انتقال فؤاد إلى المنصب الدولي بأنه "تطور نوعي" في مسار تمكين الحضور المصري داخل مؤسسات الأمم المتحدة، مؤكدة أن الدكتورة ياسمين تمثل نموذجًا مشرفًا للمرأة المصرية في ساحات العمل البيئي العالمي.

 

من المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى العمل الدولي

وفي مايو 2025، قدمت السفيرة مشيرة خطاب استقالتها من رئاسة المجلس القومي لحقوق الإنسان، بعد ثلاث سنوات في المنصب، وذلك استعدادًا للترشح لمنصب دولي رفيع داخل إحدى المنظمات العالمية. قرار خطاب جاء في توقيت دقيق، وسط عملية مراجعة شاملة يقوم بها المجلس لأدواره وتوجهاته، مما منح لخطوتها بعدًا سياسيًا واستراتيجيًا لافتًا.

 

خطاب، أول امرأة تتولى رئاسة المجلس منذ تأسيسه عام 2003، أوضحت في بيانها أن الاستقالة جاءت رغبة في خوض تجربة دولية جديدة، مشيدة بالدعم الذي تلقته من الدولة ومؤسساتها طيلة فترة توليها المسؤولية.

 

استقالات بدوافع سياسية

إلى جانب التحولات المرتبطة بالمناصب الدولية، لا تغيب عن الساحة نماذج استقالات ذات طابع سياسي، مثل استقالة وزير الخارجية الأسبق محمد إبراهيم كامل عام 1978، احتجاجًا على توجه مصر لتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع إسرائيل. كامل، الذي خلف إسماعيل فهمي المستقيل لنفس الأسباب، رأى أن الاتفاق لا يراعي الحقوق الفلسطينية، فاختار الانسحاب قبيل التوقيع الرسمي.

 

ورغم خروجه من الحكومة، ظل محمد إبراهيم كامل حاضرًا في المحافل الدولية بصفة غير رسمية، ما يعكس قدرة بعض الشخصيات على التأثير خارج المناصب الرسمية، مستندين إلى رصيدهم السياسي ومكانتهم الدبلوماسية.

 

"تدويل الكفاءات": استراتيجية مصرية ناعمة

يؤكد مراقبون أن خروج مسؤولين كبار من مناصبهم لتولي مهام دولية لا يمثل فراغًا، بل جزءًا من سياسة مصرية تهدف إلى "تدويل الكفاءات"، أي الاستفادة من الخبرات الوطنية في تعزيز النفوذ المصري داخل المؤسسات الإقليمية والدولية، الأمر الذي يضفي ثقلًا سياسيًا ومعنويًا على صورة مصر الدولية.

 

لكن في المقابل، يتطلب هذا التوجه إعادة ترتيب داخلية لضمان انتقال سلس للملفات، وتهيئة كوادر جديدة قادرة على مواصلة العمل بكفاءة واستمرارية.

 

من الداخل إلى الخارج.. الخدمة مستمرة ولكن بأدوات مختلفة

اللافت أن هذه التنقلات لا تعني مغادرة المسؤولين لدائرة العمل العام، بل تغيير أدواته ومجالاته. فبدلًا من ممارسة مهام تنفيذية داخل مؤسسات الدولة، يتحول الدور إلى تمثيل خارجي يحمل صبغة دولية أو إقليمية، ضمن مسار يخدم أجندة الدولة المصرية في الخارج، ويُسهم في ترسيخ نفوذها الدبلوماسي.

 

وبينما تتغير المواقع، تبقى الرسالة واحدة: مصر قادرة على تصدير كفاءاتها إلى العالم، بما يحقق التوازن بين الحفاظ على السيادة الوطنية والانخراط الفاعل في النظام الدولي.