في خطوة تحمل أبعادًا استراتيجية وتداعيات إقليمية واسعة، واصلت إثيوبيا تنفيذ سياسة التخزين الأحادي في سد النهضة، حيث كشفت صور الأقمار الصناعية الأخيرة عن ارتفاع ملحوظ في منسوب المياه خلف السد، ليبلغ إجمالي المخزون المائي نحو 60 مليار متر مكعب حتى منتصف يوليو الجاري. ويأتي هذا التطور بالتزامن مع استمرار موسم الأمطار في الهضبة الإثيوبية، وسط غياب واضح لأي تنسيق فني أو اتفاق قانوني ملزم مع دولتي المصب، مصر والسودان.
ويثير هذا النهج مزيدًا من المخاوف بشأن الأمن المائي الإقليمي، خاصة في ظل التشغيل الجزئي للتوربينات وغياب التصريف المنتظم للمياه، وهو ما يطرح تساؤلات جادة حول النوايا الإثيوبية، وتأثير ذلك على تدفقات النيل الأزرق خلال الفترة المقبلة، مع اقتراب موعد الافتتاح الرسمي للسد عقب انتهاء موسم الأمطار في سبتمبر.
فريق 5 سياسة، أجرى تحليلا لصور الأقمار الصناعية، لسد النهضة، قبيل أسابيع من موعد الافتتاح الرسمي بعد انتهاء موسم الأمطار في منتصف سبتمبر المقبل.
غلق معتاد في موسم الأمطار
وتظهر آخر صور الأقمار الصناعية الملتقطة بتاريخ 14 يوليو الجاري عبر أداة "copernicus"، تدفقات مائية بكميات منخفضة عبر بعض التوربينات خاصة في الجانب الأيمن ما يعني أن إثيوبيا تخزن الكمية الأكبر من المياه خلف سد النهضة، أثناء فترة موسم الأمطار الذي بدأ منتصف يونيو الماضي ويستمر حتى منتصف سبتمبر المقبل.
تتبعنا عملية تصريف المياه من سد النهضة عبر التوربينات وقنوات التصريف على مدار الـ8 أشهر الماضية، وكانت آخر مرة فُتحت فيها قناة التصريف الجانبية في 19 ديسمبر الماضي، وعلى مدار الـ 7 أشهر مرت المياه من السد من خلال التشغيل الجزئي لبعض التوربينات في سد النهضة.
يؤكد الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، إن سد النهضة لم يمرر إلا 5 مليارات متر مكعب من المياه فقط على مدار الـ 10 أشهر المضية، نتيجة عدم تشغيل التوربينات بكامل طاقتها، وغلق البوابات تماما منذ 24 ديسمبر، والاعتماد على التصريف الجزئي من التوربينات.
كما يوضح شراقي: إثيوبيا قد تفتح بوابات المفيض العلوي في القريب العاجل، للحفاظ على كمية المياه في بحيرة السد عند 60 مليار متر مكعب، ويمكن أن تؤخر فتح بوابات السد وتُخزن 4 مليارات متر مكعب أخرى من المياه لاختبار مرور المياه من الممر الأوسط، لكنها في النهاية تضطر لفتح بوابات السد لتمرير المياه عند تخزين كمية المياه المناسبة، وهذا الأمر اًصبح معتادا وشبه موسميا.
وتُظهر صور eo-browser فتح قنوات التصريف الجانبية لسد النهضة في أول سبتمبر 2024، بعد غلقها منذ بداية موسم الأمطار أيضا، والاكتفاء بتمرير المياه عبر التشغيل الجزئي لبعض التوربينات، في حوض التوربينات الأيمن كما تُظهر الصور، ما يدعم اعتياد إثيوبيا غلق بوابات سد النهضة في بداية موسم الأمطار لتخزين المياه.
وتصل مساحة بحيرة تخزين المياه لسد النهضة إلى 172.500 متر مربع، وتستوعب 74 مليار متر مكعب من المياه.
وتوضح الصور استمرار ملء البحيرة، بكميات إضافية من مياه الأمطار تصل إلى 5 مليارات متر مكعب في الآونة الأخيرة، بعد نقص مياه البحيرة نتيجة البخر والتشغيل الجزئي للتوربينات.
وبدأت إثيوبيا الملء الأول لسد النهضة في 2020، حينما خزنت قرابة 5 مليارات متر مكعب من المياه، ثم كان الملء الثاني في 2021، أما الملء الثالث فكان في 2022 بتخزين 9 مليارات متر مكعب، وفي المرحلة الخامسة وصلت كمية المياه خلف السد إلى مليار متر مكعب في 2024.
فيديو مراحل ملء خزان سد النهضة
خط الفقر.. تضاعف السكان يزيد أزمة المياه
وفي موسم الأمطار تبدأ إثيوبيا في تخزين المياه، دون احتساب كمية الفيضان، لكن أزمة مصر المائية أكبر من حصتها التاريخية من المياه، ففي عام 1959، وقعت مصر اتفاقية تقاسم مياه نهر النيل، لكن حينها كان عدد السكان لا يصل إلى 26 مليون مواطن، ورغم استقرار حصة مصر من مياه النيل، استمر عدد السكان في التضاعف على مدار 75 عاما، بنسبة 440% ليتخطى الـ 114 مليونا.
ومع الزيادة المستمرة لعدد السكان، وثبات حصة مياه النيل، انخفض نصيب الفرد من مياه نهر النيل، حيث كان يقدر بأكثر من 2100 متر مكعب من المياه في عام 1959، لكن في الثمانينيات، انخفض نصيب الفرد إلى أقل من 1000 متر مكعب من المياه، وهو الرقم الذي تحدده الأمم المتحدة للفقر المائي.
وفي العام الماضي وصل نصيب الفرد إلى أقل 484 متر مكعب من مياه النيل، وهو أقل من نصف ما حددته الأمم المتحدة، وفي الإجمال تحتاج مصر إلى 58.8 مليار متر مكعب من مياه النيل لتلبية احتياجاتها، وهو ما يماثل ما تحصل عليه الآن.
تستخدم مصر 67% من المياه في الزراعة، وهو الجزء الأكبر من الاستخدامات، يليها مياه الشرب، بـ 18.6 بالمئة فقط، بينما يذهب 6.8 بالمئة من المياه للصناعة.
في عام 2020، بدأت إثيوبيا في ملء خزان سد النهضة، وهو ما استهجنته مصر حينها، وطلبت توضيحا عاجلا من إثيوبيا في بيان رسمي، لكنها في الوقت نفسها أنتجت زيادة 25% من مصادر المياه غير التقليدية.
في عام 2015، كانت مصر تنتج 19.6 مليار متر مكعب مياه من مصادر غير نهر النيل تشمل المياه الضحلة في الدلتا، والصرف المعالج للزراعة، لكن سرعان ما قفزت هذه الكمية في العام التالي إلى 20 مليار متر مكعب، لتصل إلى 25.8 مليار في 2020.
ووصل إنتاج مصر للمياه من المصادر غير التقليدية إلى ذروته في 2021، بـ 27.3 مليار متر مكعب، قبل أن ينخفض إلى 21.9 مليار في العام
هل وصلت حصة مصر كاملة؟
تشير البيانات الصادرة عن الجهاز المصري للتعبئة العامة والإحصاء، أن حصة مصر من مياه نهر النيل لم تتأثر على مدار السنوات الماضية من بناء وملء خزان السد، حيث وصلت حصة مصر كاملة 55.5 مليار متر مكعب من المياه.
يفسر الدكتور نادر نور الدين، حصول مصر على حصتها كاملة من المياه السنوات الماضية، حيث تصادف وجود فيضان عالي، وارتفاع تدفق النيل الأزرق لـ 75 مليار متر مكعب بدلا من 50 مليار، وبالتالي خزنت إثيوبيا من الفيضان العالي نتيجة ارتفاع الفيضان.
وأضاف أن دورة النيل 20 سنة تشمل 7 عجاف، و7 ثمان و6 في المتوسط، وفي العجاف تنخفض تدفقات النيل الأزرق من 50 مليار متر مكعب إلى 30 مليار متر مكعب، وفي هذه الحالة تطالب مصر أن تكون الأولوية لها وللسودان في السنوات العجاب، وتكتفي إثيوبيا بتوليد 80% فقط من طاقة محطات السد الكهربائية، حتى لا تدفع مصر الثمن وحدها، كدولة مصب، وهو ما ترفضه إثيوبيا أيضا، مؤكدا أن إثيوبيا ليس لديها سيطرة كاملة على السد في حالات الفيضان العالية، ومجبرة على فتح السد، لكن الأزمة والسيطرة الكاملة تكون في السنوات العجاف.
لكن الدكتور عباس شراقي يشكك في حصول مصر على حصتها كاملة، إذ خزنت إثيوبيا قرابة الـ 90 مليار متر مكعب من المياه خلف السد، وهو كمية تشمل المياه المحجوزة والفاقد نتيجة البخر، ومن المستحيل أن تزيد كمية الأمطار طوال الخمس سنوات الماضية بهذا الرقم.
وأشار إلى أن مصر نجحت في التغلب على النقص، بترشيد استهلاك المياه، وتقليص مساحة زراعة الأرز، والتوسع في إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة في الزراعة، وهي مصادر بديلة تعادل نصف حصة مصر من مياه النيل، لكن ذلك في الوقت ذاته أثر على تراجع مساحة العديد من المحاصيل مثل القصب والأرز.
وعن التخوف من السنوات العجاف، قال شراقي إن إيراد المياه من الأمطار لن يقل عن 39 مليار متر مكعب، وفي هذه الحالات هناك احتياطي من المياه في السد العالي سوف يعوض هذا النقص.
لكن صور الأقمار الصناعية توضح انخفاض منسوب المياه خلف السد العالي على مدار الخمس سنوات الماضية وهي الفترة التي تزامنت مع ملء خزان سد النهضة، حيث انخفض منسوب المياه في الأطراف مع ظهور مساحة أكبر لعدة جزر في المنتصف.
فيديو خرائط
https://youtube.com/shorts/txy7LCTLmjY?si=kOZF0NBoVAAz4NI_
النقاط الخلافية
" المرحلة الصعبة مرت وفي جميع الأحوال المياه قادمة إلى مصر"، كما يؤكد شراقي، مهما خزنت إثيوبيا المياه في بحيرة السد مضطرة لفتح البوابات وتفريغ المياه، أو تمرير المياه من التوربينات لتوليد الكهرباء، متوقعا أن يصرف سد النهضة كامل كمية المياه من الأمطار نظرا لامتلاء البحيرة.
وتابع: حصة مصر من المياه سوف تنتظم بعد عملية الملء، وتشغيل التوربينات بكل طاقتها يخدم مصر لأنها ببساطة عبارة عن بوابات للمياه.
وأوضح: لابد من الوصول إلى اتفاق وتنسيق مع الجانب الإثيوبي، بوجود لجنة فنية مشتركة، تراعي عدم وجود أضرار جسيمة على أي من الدولتين.
وأشار إلى أننا الآن أصبح وضع التفاوض أسهل لأن عملية الملء التي كانت تمثل أبرز الخلافات مع مصر، قد مرت، ولابد الآن من التوافق على خطوط عريضة "فسنوات الخلاف قد مرت".
أما الدكتور نادر نور الدين فيرى أنه رغم مرور الفترة الصعبة من ملء خزان سد النهضة، لا تزال هناك مشكلتان، الأولى رفض إثيوبيا ضمان أي كمية من المياه لصالح مصر والسودان، حيث طلبت مصر ضمان إثيوبيا السماح بمرور كمية من المياه للنيل الأزرق تماثل نفس الكمية قبل بناء السد، لكن إثيوبيا رفضت الالتزام، وبالتالي لا تستطيع مصر بناء اقتصادها على نسبة مجهولة من المياه.
وتابع: النقطة الثانية، مرور المياه من السد عبر التوربينات، يثير نقطة تخوف لدى مصر، وإذا عملت التوربينات بالوضع القياسي فيمكن أن تمر المية التي تحتاجها مصر، لكن إثيوبيا قد تعمل بعدد محدود من التوربينات حسب كمية الكهرباء التي تعاقدت على تصديرها، وبالتالي ستمر كمية أقل من المياه، وما تحتاجه مصر هو ضمان تشغيل التوربينات بكل طاقتها لمرور أكبر كمية من المياه، لكن أثيوبيا ترفض كل الحلول المصرية.