لم تكن دورة الألعاب الأولمبية لعام 1976 في مونتريال مجرد حدث رياضي، بل تحولت إلى ساحة صراع سياسي عالمي، حيث اهتزت منصات التتويج بقرار تاريخي اتخذته دول أفريقية وعربية لمقاطعة الألعاب، لم يكن الدافع هو الخسارة الرياضية، بل كان مبدأً ضد التمييز العنصري الذي يمارس في نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا.

بدأت الأزمة عندما سمحت اللجنة الأولمبية الدولية
(IOC) لمنتخب نيوزيلندا للرجبي، الملقب بـ "الرباعي الأسود"، بالقيام بجولة رياضية في جنوب أفريقيا، التي كانت معزولة دوليًا بسبب سياساتها العنصرية، كانت هذه الجولة بمثابة تحدٍ صارخ للجهود الدولية الرامية إلى مقاطعة نظام الأبارتايد، رغم أن لعبة الرجبي لم تكن مدرجة في الألعاب الأولمبية، إلا أن الدول الأفريقية اعتبرت مشاركة نيوزيلندا في الأولمبياد بعد زيارتها لجنوب أفريقيا بمثابة تجاهل لمبادئ العدالة والكرامة.

في 17 يوليو 1976، قبيل ساعات من حفل الافتتاح، قادت جمهورية تنزانيا حركة المقاطعة، وسرعان ما انضمت إليها 28 دولة أفريقية أخرى، بالإضافة إلى غيانا، وتبعهم العراق ولبنان وسوريا ومصر، مثلت هذه الخطوة جبهة موحدة ضد العنصرية، وأظهرت أن الرياضة لا يمكن فصلها عن القضايا الإنسانية الكبرى، كانت الرسالة واضحة: "إذا لم يتم طرد نيوزيلندا، فلن يشاركوا
".

كانت المقاطعة بمثابة ضربة قاسية للألعاب، لم يقتصر الأمر على غياب عدد كبير من الرياضيين الموهوبين، خاصة في ألعاب القوى والملاكمة، بل أيضًا على الأثر المعنوي، كانت بعض هذه الدول تضم نجومًا مرشحين لتحقيق ميداليات، مما قلل من مستوى المنافسات في بعض الرياضات
.

من الناحية الاقتصادية، أثرت المقاطعة على إيرادات بيع التذاكر وحقوق البث التلفزيوني، ومع ذلك، من وجهة نظر الدول المقاطعة، كان الانتصار معنويًا، فقد نجحوا في إيصال رسالة سياسية قوية للعالم مفادها أن الرياضة يجب أن تكون خالية من العنصرية، وأن التضامن الأفريقي والدولي قادر على إحداث تغيير
.

لم تتراجع اللجنة الأولمبية الدولية عن قرارها، واستمرت الألعاب؛ لكن المقاطعة أصبحت نقطة تحول في تاريخ الأولمبياد، كانت هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها مقاطعة الألعاب لأسباب سياسية واسعة النطاق، وهو ما تكرر لاحقًا في أولمبياد موسكو 1980 وأولمبياد لوس أنجلوس 1984
.

تظل مقاطعة مونتريال 1976 حلقة مهمة في تاريخ الرياضة والسياسة، تذكرنا بأن الملاعب ليست دائمًا بمنأى عن الصراعات العالمية، وأن القيم الإنسانية يمكن أن تكون أقوى من الرغبة في الفوز بالميداليات، لقد كانت تلك الدورة الأولمبية بمثابة شهادة على أن الرياضة يمكن أن تكون أداة للتغيير الاجتماعي، حتى لو كان ثمن ذلك باهظًا
.