تشهد إسرائيل في الشهور الأخيرة وضعًا غير مسبوق، مع تزايد الضغوط الدولية التي لم تعد تقف عند حدود البيانات الدبلوماسية أو الانتقادات السياسية، وإنما تحولت إلى خطوات عملية لها أثر مباشر على واحد من أهم القطاعات بالنسبة لتل أبيب، وهو قطاع الصناعات العسكرية.
هذا القطاع الذي طالما شكل مصدرًا رئيسيًا للدخل وأداة لتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي، بات اليوم يواجه انتكاسات متلاحقة تهدد مكانته الدولية.
ففي إسبانيا، اتخذت الحكومة قرارات واضحة بوقف وإلغاء صفقات تسليح كبيرة كانت في طريقها للتنفيذ مع شركات إسرائيلية كبرى.
هذه القرارات لم تكن مجرد إعادة تقييم اقتصادية أو مراجعة فنية، بل جاءت كرد فعل مباشر على استمرار الحرب في قطاع غزة وما يرافقها من اتهامات متزايدة لتل أبيب بارتكاب انتهاكات جسيمة.
الخطوة الإسبانية أحدثت صدمة في أوساط الصناعات الدفاعية الإسرائيلية، خاصة أن مدريد كانت من الأسواق الأوروبية المهمة لهذا القطاع.
وفي فرنسا، شهد العالم مشهدًا لافتًا خلال افتتاح معرض باريس الجوي عندما أغلقت السلطات أجنحة عدة شركات إسرائيلية بارزة.
تم تغطية المعروضات وعزلها عن الزوار بعد أن رفضت الشركات الالتزام بتعليمات تمنع عرض الأسلحة الهجومية داخل المعرض.
المشهد كان محرجًا لتل أبيب، حيث ظهر جليًا أن المشاركة لم تعد موضع ترحيب كما في السابق، بل صارت محل تضييق وإقصاء متعمد، وهو ما أثار الحكومة الإسرائيلية وبعض الشركات التي هددت بالتصعيد القانوني ضد الجانب الفرنسي.
الأمر لم يقتصر على أوروبا الغربية فقط، بل امتدت موجة الضغوط إلى مناطق أخرى، فبعدما كانت إسرائيل قد شاركت في دورات سابقة لمعارض الطيران في الخليج عقب توقيع اتفاقيات التطبيع، جاء قرار الاستبعاد من النسخة المقبلة ليوجه ضربة إضافية، ويؤكد أن الأزمة تتجاوز الحسابات المالية لتصل إلى معادلات سياسية حساسة، وأن سمعة السلاح الإسرائيلي لم تعد كما كانت.
وتأتي خطورة هذه التطورات من أن الصناعات العسكرية الإسرائيلية لطالما عُرضت على أنها منتجات "مجرّبة ميدانيًا"، وهو الوصف الذي كان يجذب العديد من المشترين.
غير أن هذه الميزة نفسها تحولت إلى عبء، بعدما باتت ترتبط في أذهان الرأي العام العالمي بالدمار والخسائر البشرية في غزة.
المشتري المحتمل اليوم قد يتردد كثيرًا قبل الدخول في تعاقد مع شركات تواجه انتقادات حادة ومقاطعة فعلية من حكومات ومؤسسات دولية، خشية أن ينجر هو الآخر إلى مواجهة مشابهة.
وفي السياق ذاته، تتزايد الضغوط داخل الاتحاد الأوروبي لاتخاذ خطوات أكثر صرامة، فقد أعلنت المفوضية الأوروبية عن نيتها تقديم حزمة عقوبات جديدة على إسرائيل، تشمل مراجعة اتفاق الشراكة التجارية المبرم معها، وحرمانها من بعض المزايا التفضيلية في حال استمرار الانتهاكات.
هناك أيضًا نقاشات مفتوحة بين الدول الأعضاء حول إمكانية فرض قيود على تصدير أو استيراد السلاح، وهو ما قد يشكل في حال تطبيقه نقلة نوعية في الموقف الأوروبي، ويضع إسرائيل في عزلة غير مسبوقة.
ومع استمرار الحرب على غزة وارتفاع الأصوات المطالبة بعقوبات دولية، تبدو إسرائيل وكأنها تدخل مرحلة جديدة من التحدي.
الخسائر المتتالية في العقود والمعارض، إلى جانب التلويح الأوروبي بعقوبات اقتصادية وتجارية، تشير إلى أن تل أبيب قد تواجه خلال السنوات المقبلة أزمة حقيقية تتجاوز الجانب المالي إلى تهديد مكانتها كواحدة من أبرز مصدري السلاح في العالم.
وإذا استمرت هذه التطورات على نفس الوتيرة، فإن الصناعات العسكرية الإسرائيلية قد تجد نفسها أمام تراجع تاريخي يضعف قدرتها على الاستمرار بنفس النفوذ الذي اعتادت عليه.