السيسي يستقبل الملك فيليبي السادس بالقاهرة.. مباحثات موسعة لتعزيز التعاون الاقتصادي ودعم حل الدولتين
شهد قصر الاتحادية صباح اليوم حدثًا استثنائيًا على صعيد العلاقات الدولية لمصر، حيث استقبل السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، والسيدة انتصار السيسي، قرينة رئيس الجمهورية، جلالة الملك فيليبي السادس، ملك إسبانيا، وجلالة الملكة ليتيزيا، في أول زيارة دولة يقوم بها ملك إسبانيا إلى مصر منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل أكثر من سبعين عامًا. وتكتسب الزيارة أهمية مضاعفة كونها تأتي بعد أشهر قليلة من توقيع إعلان الارتقاء بالعلاقات بين القاهرة ومدريد إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية في فبراير 2025، ما يعكس الرغبة المشتركة في فتح مرحلة جديدة من التعاون المتعدد الأبعاد.
مراسم استقبال رفيعة المستوى
أقيمت مراسم استقبال رسمية عكست الطابع الاحتفالي للزيارة، حيث اصطفّت الخيول على جانبي المدخل الرئيسي لقصر الاتحادية، وعزفت الموسيقى العسكرية السلامين الوطنيين لمصر وإسبانيا، واستُعرض حرس الشرف، كما أُطلقت 21 طلقة مدفعية تحيةً لضيف مصر الكبير. والتقط الرئيس السيسي وقرينته صورة تذكارية مع ملك وملكة إسبانيا قبل أن يبدأ برنامج المباحثات الرسمية.
لقاء ثنائي وجلسة موسعة
عقد الرئيس السيسي لقاءً ثنائيًا مغلقًا مع الملك فيليبي السادس، أعقبه اجتماع موسع بمشاركة وفدي البلدين، تناول سبل دفع العلاقات الثنائية في مختلف المجالات. وأوضح السفير محمد الشناوي، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، أن الرئيس رحّب بجلالة الملك في أول زيارة دولة له إلى مصر، مؤكدًا اعتزاز القاهرة بما تحقق من خطوات لتعزيز العلاقات بين البلدين منذ توقيع إعلان الشراكة الاستراتيجية. من جانبه أعرب الملك فيليبي عن بالغ اعتزازه بزيارة القاهرة، مشيدًا بالمكانة الإقليمية والدولية لمصر وما تحمله من إرث حضاري وإنساني استثنائي.
خلفية تاريخية للعلاقات المصرية-الإسبانية
تعود جذور العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسبانيا إلى ما يقرب من قرن من الزمان، حيث أنشأت إسبانيا تمثيلًا دبلوماسيًا في القاهرة عقب استقلال مصر عام 1922، وتم رفع مستوى العلاقات إلى سفارة عام 1949. وعلى مدار العقود التالية، حافظ البلدان على قنوات حوار مفتوحة رغم اختلاف الظروف السياسية، وشهدت العلاقات دفعة كبيرة في مطلع الألفية الجديدة مع توقيع معاهدة الصداقة والتعاون خلال زيارة الملك خوان كارلوس والملكة صوفيا إلى القاهرة عام 2008، والتي أرست إطارًا شاملًا للتعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي فبراير 2025، شهدت العلاقات نقطة تحول مفصلية بتوقيع إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في مدريد، ما فتح آفاقًا جديدة للتعاون على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف.
ملفات اقتصادية وتجارية في صدارة الأجندة
ناقشت المباحثات آليات تعميق التعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين، بما في ذلك زيادة حجم التبادل التجاري وتوسيع الاستثمارات الإسبانية في مصر في مجالات البنية التحتية، والنقل، والطاقة المتجددة، والسياحة. وأكد الجانبان أهمية البناء على الزخم الحالي لتعظيم فرص التعاون في قطاع النقل، حيث تعد إسبانيا من الشركاء الرئيسيين لمصر في تطوير شبكات السكك الحديدية ومترو الأنفاق، إضافة إلى التعاون في مجال السياحة الذي يشهد تدفقات متزايدة من السائحين الإسبان إلى المقاصد المصرية.
كما جرى استعراض فرص جديدة للتعاون في مجال الآثار والتنقيب والحفاظ على التراث، حيث تعمل في مصر نحو 13 بعثة أثرية إسبانية تنشط في سقارة والأقصر وأسوان وواحة الجمال، وهو ما يعكس البعد الثقافي العميق للعلاقات بين البلدين.
دعم إسباني لجهود السلام وحل الدولتين
على الصعيد السياسي، استحوذت القضية الفلسطينية وتطورات الوضع في قطاع غزة على حيز مهم من المناقشات. وأعرب الرئيس السيسي عن تقديره للمواقف الإسبانية الداعمة للسلام العادل والشامل، وخاصة اعتراف مدريد بالدولة الفلسطينية وتصويتها لصالح “إعلان نيويورك” بشأن حل الدولتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأكد أن تلك الخطوة تعكس التزام إسبانيا بمبادئ العدالة والشرعية الدولية وتكريس حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
بدوره أشاد الملك فيليبي السادس بجهود مصر الحثيثة على مدار العامين الماضيين من أجل وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بما في ذلك خطة إعادة الإعمار التي تبنتها القاهرة وحظيت بدعم عربي وإسلامي واسع. واتفق الجانبان على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع دون عوائق، والإفراج عن الرهائن والأسرى، مع التأكيد على الرفض القاطع لأي محاولات لتهجير الشعب الفلسطيني خارج أرضه أو ضم أراضي الضفة الغربية.
توافق حول القضايا الإقليمية والدولية
لم تقتصر المباحثات على الشأن الفلسطيني، بل شملت كذلك تطورات الحرب في أوكرانيا وعددًا من الملفات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك. وتم التأكيد على أهمية الحلول السياسية السلمية التي تضمن احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها ومقدرات شعوبها، مع الاتفاق على مواصلة التنسيق بين البلدين في المحافل الإقليمية والدولية متعددة الأطراف.
تبادل أوسمة ومأدبة رسمية
عقب المباحثات، جرى تبادل الأوسمة بين الرئيس السيسي والملك فيليبي السادس، وكذلك بين السيدة انتصار السيسي وجلالة الملكة ليتيزيا، في خطوة تعكس عمق العلاقات الممتدة بين القاهرة ومدريد. وأقام الرئيس والسيدة قرينته مأدبة غداء رسمية على شرف الضيفين الكريمين بحضور وفدي البلدين، حيث ألقى الرئيس كلمة رحب فيها بجلالة الملك والملكة، مؤكدًا أن مصر كانت وستظل وطنًا ثانيًا للأشقاء الإسبان، وداعيًا إلى البناء على الشراكة الاستراتيجية لتحقيق التنمية والسلام.
قراءة تحليلية: دلالات وتحديات
تأتي هذه الزيارة في توقيت بالغ الحساسية إقليميًا ودوليًا؛ فالقضية الفلسطينية تمر بمنعطف خطير وسط استمرار الحرب في غزة ومحاولات فرض وقائع جديدة على الأرض، وهو ما يجعل من الموقف الإسباني الداعم لحل الدولتين إضافة مهمة إلى الجهود الدولية. كما أن ترفيع العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية يمنح القاهرة ومدريد منصة أقوى لتعزيز التعاون في مجالات النقل والطاقة المتجددة والأمن البحري في البحر المتوسط، في ظل ما يواجهه الإقليم من تهديدات تتعلق بالهجرة غير الشرعية والإرهاب.
كذلك تعكس الزيارة رغبة أوروبية متزايدة في تعزيز التواصل مع مصر باعتبارها ركيزة الاستقرار الإقليمي وشريكًا موثوقًا في قضايا الطاقة والربط اللوجستي، خاصة مع خطط أوروبا لتنويع مصادرها بعيدًا عن الاعتماد على الغاز الروسي. وبالنسبة للقاهرة، تمثل الشراكة مع إسبانيا بوابة مهمة إلى السوق الأوروبية ونقطة ارتكاز لتوسيع التعاون مع الاتحاد الأوروبي في قضايا التنمية والاستثمار.
ياخيرا يمكن القول إن زيارة ملك إسبانيا إلى مصر تمثل لحظة فارقة في مسيرة العلاقات الثنائية، ليس فقط على المستوى البروتوكولي، بل على مستوى إعادة صياغة أولويات التعاون المشترك بما يتماشى مع التحولات الإقليمية والدولية. ومع تبادل الأوسمة وكلمات الترحيب، بدا واضحًا أن القاهرة ومدريد تتطلعان إلى مرحلة جديدة من الشراكة تقوم على المصالح المتبادلة والدعم المشترك للاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط.