مرّ أكثر من مئة عام على توقيع معاهدة سايكس – بيكو، لكن آثارها ما زالت تحكم حاضرنا السياسي والجغرافي، كأنها كُتبت بماء النار. فما زالت الحدود التي رسمها المستعمر تُعبد بالدم، والكيانات التي فُرضت تتحول إلى أوطان مقدّسة لا يُسمح المساس بها، رغم أنها وُلدت من صفقة استعمارية لا من إرادة الشعوب.
قبل أن تصل المنطقة إلى هذه الخريطة المفككة، كانت قد عاشت قرونًا من السيطرة العثمانية التي أجهضت أي مشروع نهضوي عربي . لأربعة قرون ونصف، غرقت الأمة العربية في الجهل والانحطاط بقيادة اصحاب الطرابيش ، بينما كانت أوروبا تُشيد صروح الثورة الصناعية وتقود تحوّلات اقتصادية وعلمية غير مسبوقة.
ومع أفول السلطنة العثمانية، جاءت القوى الغربية لترسم خريطة جديدة للمنطقة. فجاءت معاهدة سايكس – بيكو عام 1916 كثمرة لتحالف بريطاني – فرنسي برعاية روسية، لتقاسم تركة "الرجل المريض". هكذا نشأت كيانات ودويلات لا علاقة لها بتاريخ أو هوية، بل بخطوط مصالح ونفوذ دولية.
لكن الأخطر من الخرائط ذاتها، هو من تولّى حراستها. الطبقة السياسية التي وُلدت في كنف سايكس – بيكو، لم تكن يوماً جزءاً من مشروع وطني حقيقي، بل نُخبٌ محلية تمسّكت بالحدود المصطنعة، ورفعتها إلى مستوى "الرموز الوطنية"، وقمعت كل محاولة لكسرها أو التشكيك في مشروعيتها.
هذه الطبقة تعيش على الطائفية والمحاصصة والارتهان للخارج لتأمين مصالحها ، وتُقاتل بضراوة للدفاع عن كيانات لم تنجح يومًا في بناء دولة حديثة أو تأمين كرامة المواطن. أسوأ ما في الأمر، أنها تدّعي الواقعية السياسية، بينما تعيش في أوهام "الاستقرار ضمن كيانات مأزومة".
أكثر من ذلك، تحوّلت هذه النخب إلى وكلاء محليين للقوى التي رسمت الخريطة، يعيدون إنتاج أنفسهم كلما لاح في الأفق مشروع مقاومة أو وحدة. يهاجمون القومية العربية، ويشوّهون فكرة الوحدة، ويخوضون حربًا على كل خطاب تحرري، بينما يتقبلون بصمت مشاريع التطبيع والتفتيت الجديدة.
لا مشكلة لديهم في تعديل الخرائط إن جاء القرار من الخارج. أما إذا خرجت الإرادة من الشعوب، فهنا تبدأ الاتهامات: مغامرة، فوضى، تهديد للاستقرار.
اليوم، نعيش شتّى أشكال الصراعات الطائفية، القطرية، العرقية، التي أرادها المستعمر أدوات دائمة لإبقاء العرب في حالة من التفكك والعجز. الكلّ ضد الكلّ، فيما تغيب أي رؤية وحدوية جامعة.
السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بجرأة: هل نعيش فعلًا في دول حقيقية، أم في سجون حدودية رسمها الغريب؟ هل نملك قرارنا، أم نحن مجرّد أدوات في يد من كتب التاريخ بمداد المصالح؟
ربما آن الأوان أن نقولها بصوت عالٍ: لا لتجديد سايكس – بيكو، بل لتفكيك منظومتها. فالخروج من هذا القيد لا يكون بالتمنّي، بل بكسر الأسوار التي نصّب "وكلاؤها" أنفسهم حرّاسًا لها.