أثناء ما كانت المخابرات المصرية تلعب القمار مع "رابينوفيتش"، وتسرق منه شفرة الدفاع الجوي، كانت هناك مهمة أخرى... ومصيبة ظهرت فجأة.
مصيبة كان من الممكن أن تمنع مصر من أن تحارب، أو تؤجل قرار الحرب كثيرًا.
في أول أغسطس سنة 1973، سلّمت الولايات المتحدة الأمريكية للإسرائيليين محطة إنذار مبكر متطورة، وركّبوها في أحد المطارات العسكرية في سيناء. محطة محصّنة، ومحمية جيدًا، وتحرسها نظم أمن يستحيل اختراقها.
المحطة كان من المقرر أن يبدأ تشغيلها في أول سبتمبر، على أن يتم تجريبها لمدة شهرين، ثم تبدأ عملها بكامل طاقتها في نهاية أكتوبر أو بداية نوفمبر.
وبدأت إسرائيل تختار العلماء الذين سيتولون تشغيل المحطة والإشراف عليها. وأمريكا كانت تساعدهم في ذلك، وقررت أن تُقدّم لهم قائمة بالعلماء الذين تختارهم.
علماء طاقة بالتحديد... وبدأ خبراء المخابرات المصرية يدرسون الموضوع من كل زاوية، وتوصّلوا إلى أن هناك ثلاثة من علماء الطاقة الأمريكيين تنطبق عليهم كل المواصفات التي تجعل إسرائيل تطلب الاستعانة بأحدهم:
البروفيسور "دريك هانز"
البروفيسور "مارك هايدن"
الدكتور "دافيد هيلسن"
وكانت إسرائيل ستختار واحدًا منهم. وكان على المخابرات المصرية أن تدفعهم لاختيار الشخص الذي نريده نحن.
وبعد دراسة طويلة، اختارت المخابرات المصرية أول المرشحين: البروفيسور دريك هانز.
عملية إقصاء المنافسين في صباح اليوم التالي،
في أمريكا، كان البروفيسور "مارك هايدن" يتسوّق من سوبر ماركت صغير. وبينما يتحرك داخل المتجر، اصطدم به شاب أنيق يرتدي زِرًّا ذهبيًا على كم قميصه، على شكل فراشة صغيرة.
ومع الاصطدام، شعر "مارك" بوخزة إبرة في ظهر يده. وحين نظر ليرى ما حدث، وجد أن زرار القميص قد تسبب في جرح سطحي بسيط.
وقف الشاب واعتذر للبروفيسور، ثم أخرج منديلًا معطرًا من جيب قميصه، وفتحه، ومسح به الجرح وهو يكرر اعتذاره. وانتهى الموقف، وذهب كلٌ إلى حال سبيله.
لكن بعد ساعتين من وصول "مارك" إلى عمله، ارتفعت درجة حرارته فجأة، وأُصيب بحُمّى وقشعريرة شديدة، ودوار، وتقيؤ، وتعرّق غزير.
وعندما نُقل إلى المستشفى، أخبروه أنه مصاب بعدوى فيروسية. عدوى غير قاتلة، لكنها تحتاج إلى راحة تامة في السرير لمدة ستة أسابيع إلى شهرين.
ولأن الإسرائيليين لا يمكنهم الانتظار لهذه المدة، خرج البروفيسور مارك من السباق.
العالم الثاني... استبعادٌ بذكاء في نفس اللحظة،
كان الدكتور "دافيد هيلسن" يسير داخل فناء الجامعة، حين أوقفه رجل من أصول عربية، وسلّم عليه بحرارة غريبة وكأنه يعرفه منذ سنوات.
طلب منه استشارة عاجلة، ثم أخذ يتحدث لقرابة 20 دقيقة، ثم ودّعه بحرارة شديدة... ومضى.
استغرب البروفيسور؛ لأنه لا يعرف الرجل، ولا تلقى منه أي استشارة حقيقية. لكنه لم يكن يعلم أن كل ما كان مطلوبًا هو أن يظهر برفقة هذا الرجل في مكان عام، وأن يبدو كأنهما أصدقاء.
فالموساد كان يراقب الدكتور "دافيد" بشكل طبيعي، ويجمع تحرياته عنه. وكان هذا الرجل العربي معروفًا للموساد بعدائه الشديد لإسرائيل.
وبالتالي، عندما رصد الموساد هذا اللقاء، استُبعد "دافيد" من الترشيح، خوفًا من أن تكون له علاقة مع المصريين، أو العراقيين، أو السوريين، أو أن يكون معاديًا للصهيونية.
البروفيسور "دريك هانز" الخيار الوحيد لم يتبقَ أمام الموساد إلا خيار وحيد: البروفيسور دريك هانز.
وحين أبلغته المخابرات الأمريكية باختياره، وبدأوا في تجهيزه للسفر إلى إسرائيل، كان الرجل قد وقع بالفعل تحت سيطرة المخابرات المصرية.
وطريقة السيطرة عليه ظلت مجهولة حتى اليوم، ولم يُعلن عنها أحد.
وفي اليوم التالي، وتحت حراسة مشددة من الموساد وبالتنسيق مع المخابرات الأمريكية، تم نقل البروفيسور "دريك" بطائرة خاصة إلى محطة الإنذار في سيناء.
كان "دريك" متوترًا وقلقًا، لأنه لا يريد أن ينسى التعليمات التي حفظها له ضابط المخابرات المصري حين سيطر عليه في أمريكا.
وكانت التعليمات بسيطة وغير معقدة. كل ما هو مطلوب منه: أن يجد مبررًا لوقف المحطة وتعطيلها في ست مناسبات مختلفة، ولمدة نصف ساعة فقط في كل مرة.
تنفيذ المهمة... بهدوء
استغل "دريك" وظيفته كخبير طاقة، وفعّل أول خطوة من الخطة، حيث عطّل المحطة لمدة نصف ساعة يوم 10 سبتمبر. ولم يحدث شيء.
حينها، شعر أن المخابرات المصرية ربما تختبر ولاءه، وأن هذه مجرد تجربة تمهيدية لمهمة أكبر.
فتشجّع، وقرر تنفيذ باقي التعليمات:
25 سبتمبر
30 سبتمبر
6 أكتوبر
13 أكتوبر
نهاية أكتوبر
وفي هذه الأثناء، كانت دردشات الجنود والخبراء الإسرائيليين داخل المحطة تشير إلى أن المصريين استسلموا للهزيمة وحالة اللا سلم واللاحرب.
وكل هذا منح "دريك" شعورًا بالراحة.
اللحظة الحاسمة في ظهر يوم السبت، 6 أكتوبر 1973،
وفي تمام الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة، كان البروفيسور "دريك" يخفض محوّل الطاقة ويُعطّل المحطة الإنذارية... للمرة الأخيرة.
ولأن ذلك اليوم كان يوافق عيد الغفران اليهودي (يوم كيبور)، كانت الأجواء داخل المحطة هادئة، والجميع في حالة استرخاء.
وبعد دقائق فقط من هذا التوقيت، انقضّت الطائرات المصرية على خط بارليف، وعلى كل معسكرات ومطارات إسرائيل في سيناء... في وقت واحد.
المحطة الإنذارية لم تعمل. ومحوّلات الطاقة الخاصة بها ضُربت.
ما بعد المعركة... مرارة الهزيمة هذه القصة كانت من ضمن الفضائح الكبرى التي أدت بعد الحرب إلى:
إقالة "إلياهو زعيرا" مدير المخابرات العسكرية "أمان"
إقالة رئيس الأركان "ديفيد بن إليعازر"
إقالة قائد الجبهة الجنوبية "شلومو جونين"
إقالة حوالي ثلث القوة من ضباط الموساد
وكلهم شعروا بالمرارة... مرارة الخداع... ومرارة الهزيمة.