لطالما، وعلى مدار تاريخي، كنت أرفض بشكل قاطع وجود نظرية تُدعى "المؤامرة"، إلا أن الأيام طوت أفكارًا كثيرة، وأجابت عن أخرى، وليس من المنطقي أن نتمسك بمخرجات أفكارنا دون أن نعيد الحسابات مع الزمن. فلا يمكن، مع تنامي عمليات تشغيل السد الإثيوبي، أن نعتبر أن طلبات الولايات المتحدة من مصر – على لسان الرئيس ترامب – كانت محض صدفة: مرة بعدم دفع الأمريكيين رسوم العبور من قناة السويس، وأخرى باستقبال مصر لمليوني فلسطيني يمثلون كامل سكان غزة لتصفية القضية.
ومع صمت كامل عن الأولى، ورفض قاطع للثانية، جاءت تصريحات ترامب المتصاعدة، والموحية – على غير العادة – بشأن تمويل الإدارة الأمريكية لسد النهضة. وهنا نُعيد السؤال: هل هي خطة ممنهجة أم صدفة؟ لا أظن أن مصائر الشعوب تُقاد بالصدف.

وها هي حرب أهلية في السودان؛ ظاهرها خلاف بين "قوات الدعم السريع" التي أنشأها البشير لحماية نظامه، وبين الجيش الوطني الذي أضعفه البشير خشية الانقلابات، وفي باطنها صراع دولي على اليورانيوم والذهب.

وفي ليبيا، حرب أهلية من نوع آخر؛ فالقذافي الذي ترك ليبيا بلا مؤسسات، باتت بقاياه تتصارع مع بعضها، وأمراء الحرب يسيطرون كلٌّ حسب قدرته، وكل منهم مدعوم من قوى إقليمية قد تكون صغيرة بالحجم لكنها كبيرة بالنفوذ والمال. والحقيقة أن هناك حربًا كبرى تدور حول من سيسيطر على الغاز والبترول، وهما ثروة ضخمة في بلد صغير السكان.

أما فلسطين، أم القضايا، فحربها لا تكاد تتوقف منذ عام 1948 حتى تعود وتشتعل من جديد. ولطالما كانت مصر أول المبادرين بالدفاع عن فلسطين، بالسلاح في معارك امتدت من عام 1948 حتى 1978، وبالسياسة والدبلوماسية حتى يومنا هذا.
إلا أن المعركة أخذت منحًى آخر، إذ أصبحت مصر وحدها تقاوم تصفية القضية وتهجير الفلسطينيين.

وفي أعالي النيل، تسعى إثيوبيا جاهدًة إلى التشغيل الكامل لسد النهضة. والمُعلن أن الهدف هو توليد الكهرباء، أما المخفي فهو استمرار سياسة بناء السدود دون أي ضمانات بعدم حجب المياه، مما قد يعني يومًا أن مصر ستضطر إلى شراء مياه النيل، التي تأتيها منذ آلاف السنين دون تدخل بشري.

لا شك أن مصر تخوض معركة طويلة الأجل. ونحن لا نتمنى أن يكون الحسم فيها بالسلاح، ولا أن تتركنا إثيوبيا بلا خيار سوى هذا الطريق.
والأمر هنا لا يُعد تهديدًا ولا اغترارًا بالقوة العسكرية المصرية، فمصر لم تكن يومًا بلدًا معتديًا، ولطالما رفعت شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى،
لكن لا عاقل على وجه الأرض يمكنه أن يتخيل أن مصر ستقبل بالعطش، وأن 120 مليون مواطن سيقفون مكتوفي الأيدي؛ فالماء هو الحياة.

وفي خضم كل ما يحيط بنا من تحديات إقليمية، لا يمكن إغفال أن مصر تمر بأزمة كبرى على المستوى الاقتصادي؛ فمع تضخم العملة الأجنبية، وتراجع معدلات إنتاج الغاز، بات مستوى المعيشة ينخفض يومًا بعد يوم لدى المواطنين، ولا يوجد من لا يشعر بوطأة الأزمة.

وربما تكون مصر على أعتاب قرار تاريخي بالعودة إلى الشرق (روسيا – الصين)، أو بالمناورة بهذه العودة، لفك الضغوط الغربية المفروضة عليها نتيجة الأوضاع الاقتصادية والديون المتراكمة والمتضخمة.

فبينما قاد الرئيس السادات مصر نحو الغرب، باتجاه الولايات المتحدة وأوروبا، من أجل استرداد سيناء وإحلال السلام، فإن من المقبول اليوم أن نعيد توجيه البوصلة شرقًا، بما يخدم مصالحنا أولًا وأخيرًا.
ويواكب ذلك أولوية مصرية للتمدد في العمق الإفريقي، ولو على حساب الخليج، وتشكيل مثلث مصالح جديد في الشرق الأوسط (مصر – إيران – تركيا)، بالتوازي مع مربع إفريقي تمثل فيه مصر شمال القارة، إلى جانب جنوب أفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا، مع البحث عن الفرص المشتركة.

ولا يمكننا، في خضم تلك الأحداث، إلا أن نُجدد الدعوة إلى الاصطفاف الوطني الشامل؛
فلنختلف من أجل الوطن، ونصطف من أجله، ولا نختلف عليه أبدًا.