عندما قرأت لأول مرة عناوين بعض الصحف العربية والأجنبية، أو حتى ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وما يُعرف بالإعلام الحديث، والتي تتحدث عن مظاهرات يتم حشدها في عواصم متعددة حول العالم أمام السفارات المصرية للضغط على الحكومة المصرية لفك الحصار عن غزة، ظننت – لوهلة – أنها مجرد نكتة.

وعندما تداول النشطاء دعوة أحد علماء المسلمين من عرب 48 داخل إسرائيل للتظاهر أمام السفارة المصرية لنفس السبب، اعتقدت أيضًا أنها نكتة.

لكن، وبصفتي باحثًا في إدارة الأزمات، يهمني التحليل أكثر من الانغماس في نظريات المؤامرة، وقد رأيت منذ اليوم التالي لـ7 أكتوبر محاولة دفع مصر نحو موقع المؤيد لإسرائيل، أو الصامت على قتل الفلسطينيين، أو المشارك في حصار الأطفال والمتسبب في المجاعات.

ورغم إقرار القيادات الحمساوية بالدور المصري والقطري في التفاوض، إلا أن الرواية المتكررة تظل هي نفسها: "إغلاق معبر رفح في وجه الشاحنات الغذائية، ومنعها من دخول الأراضي الفلسطينية، في محاولة مصرية – كما يزعمون – لتصفية القضية الفلسطينية".
والحقيقة أن تصفية القضية لم تكن بحاجة لكل هذا التعقيد، بل كان يكفي خطاب عاطفي واحد من رئيس الدولة، وهو الذي بكى حين رأى عظام أطفال غزة، وإعلان فتح الحدود المصرية بكاملها أمام الفلسطينيين... ولو حدث ذلك، لكانت القضية الفلسطينية فعليًا قد وصلت إلى محطتها الأخيرة في مسار التصفية.

بل علي العكس تمامآ فيحاول الرئيس في كل ظهور تكرار رفض مصر لتصفية القضية الفلسطينية واقرار الحق الفلسطيني في الدفاع عن انفسهم وان لا سبيل الا اعلان الدوله الفلسطينيه علي حدود 4 يونيو 67 وعاصمتها القدس الغربيه .

فلاتزال الذاكرة تحتفظ بذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده ملك الأردن بجانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي بدا فيه الملك مهتزًا ومتخوفًا من الرفض المباشر لفكرة التهجير، بينما كان الموقف المصري – ممثلًا في رئيس الجمهورية – حازمًا برفضه القاطع للتهجير مهما كان الثمن.
وكلنا يعلم أن الثمن كبير.

ثم جاء الرئيس الفرنسي، الذي قضى جولة في مصر الفاطمية، وشاهد بنفسه حجم الدعم الشعبي في الشارع المصري للقضية الفلسطينية، لتكشف مصر عن قوتها الناعمة التي طالما كانت معطّلة.

ولا يمكن اعتبار الموقف الفرنسي – بإعلانه المرتقب الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة خلال سبتمبر المقبل – قرارًا عشوائيًا، بل كان وراءه مشاهد مصرية واضحة. كما لا يمكن النظر إلى قرار الحكومة الهولندية بعدم استقبال  بن غفير على أنه مجرد موقف إنساني، بل جاء نتيجة ضغوط حقيقية وقوة ناعمة وموقف مصري صلب للغاية.

من المفهوم أن هناك خلافات مع السلطة المصرية القائمة بشأن ملفات مثل الاقتصاد والديمقراطية، لكن هذه الخلافات لا تُغني عن الاعتراف بأن موقف مصر من رفض التهجير واضح وضوح الشمس. وما نشهده من ضغوط على مصر لا يعلم مداها إلا الله، ويبقى التساؤل: إلى أي مدى يمكننا الصمود؟

من الطبيعي، بل من الصحي، أن نختلف حول الآليات، وقد يرى البعض أن مصر تأخرت في استخدام بعض الأوراق أو أجلتها لحسابات خاصة. وفي المقابل، يمكن الإشادة بمواقف تبدو أكثر حسمًا وصلابة. ولكن المؤكد لديّ، كباحث، أنني لا أحب ادّعاء الحكمة بأثر رجعي، ولا نحن في مناخ مفتوح بالكامل يتيح لنا الوصول إلى كل المعلومات، خاصة في أوقات الحرب... ونحن الآن نعيش مؤشرات حرب طويلة الأمد، ربما تمتد لعقود، لا مجرد سنوات.

وعلى الحكومة المصرية أن تبذل جهدًا أكبر في شرح تفاصيل الموقف للرأي العام الداخلي، للأحزاب والشخصيات العامة، للنخب والمثقفين وممثلي النقابات، من أجل ترسيخ الجبهة الداخلية، في وقت بات واضحًا أن معظم الأصدقاء يتراجعون خطوة إلى الخلف.
وختامًا، نسأل الله أن يعين مصر على محنة موقعها الجغرافي، الذي جعلها في قلب لهب مشتعل من كل الاتجاهات.