يمثل التحول الصارخ في خطاب القادة الإسرائيليين خلال الفترة قبل وأثناء وبعد حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وثيقة تحليلية نادرة تكشف عن الآلية التي انهار بها "وهم التفوق المطلق" في الوعي الإسرائيلي.

لم تكن هذه التصريحات مجرد أقوال عابرة، بل هي مؤشرات تحليلية عميقة تعكس مدى اختلال الموازين العسكرية والاستخباراتية الذي أحدثه العبور المصري المذهل.

هذا التحليل يتعمق في مدلولات تلك الشهادات الصحفية الرسمية.

المحور الأول: "نشوة الغرور" كغطاء للعمى الاستراتيجي

الخطاب الإسرائيلي قبل أكتوبر (من 1967 حتى فجر 1973) لم يكن يعكس قوة بقدر ما كان يعكس غطرسة مفرطة نتجت عن نصر 1967.

كان المدلول الرئيسي لهذه التصريحات هو التقليل المنهجي من الخصم العربي:
 

تصوير العربي ب"الإنسان الضعيف" الذي "يستحيل عليه" التخطيط لاقتحام مانع مائي أو اختراق خط بارليف (كما جاء في الدعاية الإعلامية الإسرائيلية). هذا لم يكن مجرد دعاية خارجية، بل كان اقتناعاً داخلياً في المؤسسة العسكرية، مما أدى إلى العمى الاستخباراتي.

 وصف موشيه دايان لـخط بارليف بـ"الصخرة التي سوف تتحطم عليها عظام المصريين"، وتأكيد دافيد اليعازر أنه سيكون "مقبرة للجيش المصري".

هذا يكشف عن الرهان المطلق على التحصينات الهندسية كنظام دفاعي لا يمكن اختراقه، وإهمال عامل المفاجأة وكفاءة المقاتل البشري.
 

 رد دايان القاطع على مبادرة السادات في فبراير 1971  ب " ليس لدى إسرائيل أي نية للانسحاب من أفضل خط استولت عليه" ، يوضح أن الغرور العسكري كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بـالرفض السياسي للحلول السلمية، مما جعل الحرب خياراً لا مفر منه للطرف الآخر.


تصريحاتهم هنا تشير إلى أن "السفه والغرور الإسرائيلي" لم يكن مجرد خطاب، بل كان خطأً استراتيجياً فادحاً أدى إلى تبلد الحس الأمني والتقليل من شأن المعلومات.


المحور الثاني: "اعترافات تحت وطأة النار".. انهيار الأسطورة عمليًا


في اللحظة التي تحول فيها خط بارليف إلى ركام، تحول معها الخطاب الإسرائيلي بسرعة قياسية.

تصريحات القادة أثناء المعركة (أكتوبر 1973) تمثل ذروة الصدمة والاعتراف غير المسبوق بالهزيمة:


 حيث وصف الجنرال شموئل جونين لتقدم "الجندي المصري" في موجات تحت الجحيم يؤكد أن ما واجهته إسرائيل لم يكن مجرد هجوماً عسكرياً، بل روح قتالية غير متوقعة نسفت كل التحليلات المسبقة عن "الإنسان الضعيف".
 

أما تصريحات موشيه دايان لـ"الجيروزاليم بوست" في 9 أكتوبر (اليوم الرابع) بأن "ليس لدينا الآن القوة اللازمة لرد المصريين على أعقابهم عبر القناة" هو اعتراف عسكري علني بـالفشل التام في المرحلة الأولى من صد الهجوم، وبأن "قول أن إسرائيل أقوى من العرب لم تثبت صحته هذه المرة".

هذا الإقرار بالعجز يعطي مدلولاً لضخامة الخسائر التي تكبدتها القوات الإسرائيلية في الساعات الأولى.
 

ويأتي وصف دايان لـخط بارليف بأنه "مثل الجبن السويسري الهش، فيه من الثقوب أكثر من السدود" في 19 أكتوبر، يمثل شهادة إدانة للتحصينات ولعقيدة الرهان عليها، ويؤكد أن الكفاءة الهندسية المصرية في تدميره فاقت كل التوقعات الإسرائيلية.


 هكذا إقرار دايان أمام الكنيست بـالحاجة للقذائف وضرورة التأييد الأمريكي المادي والسياسي لاستمرار الحرب، كشف عن نقطة ضعف استراتيجية إسرائيلية مزمنة، وهي عدم قدرتها على خوض حرب استنزاف طويلة الأمد دون دعم خارجي مباشر.

المحور الثالث: "زلزال أكتوبر".. تغيير العقلية والاعتراف بالكفاءة


التصريحات بعد الحرب لم تكن مجرد تقييم، بل كانت بمثابة إعادة ضبط شاملة للعقيدة الأمنية الإسرائيلية:
 
عودة الجنرالات إلى الاعتراف بكفاءة الخصم كانت حتمية.

إقرار دافيد اليعازر بأن "روح الجندي المصري العالية وكفاءته" كانت "أكبر مفاجآت هذه الحرب"، وإشادة الجنرال غوري ناركيس بـ"براعة التخطيط المصري" ودقته، يمثلان تدميراً لأسطورة التفوق العرقي التي كانت أساس الدعاية الإسرائيلية.
 

وعن تلخيص دايان للحرب بأنها "بمثابة زلزال تعرضت له إسرائيل" أزالت "الغبار عن العيون" وأدت إلى "تغيير عقلية القادة الإسرائيليين"، هو اعتراف صريح بأن الحرب كانت نقطة تحول وجودية لإسرائيل، وليست مجرد جولة عسكرية.
 

اما اعتراف دايان المتأخر في 29 ديسمبر بأن "لم يكن تقيمنا لمدى كفاءة العرب وقدرتهم القتالية سليماً" يؤكد أن الفشل الإسرائيلي لم يكن في التنفيذ فقط، بل في التخطيط الاستخباراتي والتحليلي الذي بني على الغرور وتجاهل إمكانيات الخصم.


الخلاصة تكمن في سقوط الوهم وصعود الواقعية
وتُظهر هذه الشهادات المتسلسلة تحولاً من العقلية الوهمية المعتمدة على التفوق غير القابل للكسر (قبل 1973) إلى العقلية الواقعية التي تدرك نقاط ضعفها وتعتمد على الدعم الخارجي (بعد 1973).

حيث أجبرت  حرب أكتوبر القادة الإسرائيليين على التحدث بصدق غير مسبوق في الإعلام الغربي والعبري عن حجم الصدمة والخسائر، مؤكدة أن النصر الحقيقي للطرف العربي لم يكن فقط في العبور، بل في إزالة الغبار عن العيون الإسرائيلية وكشف حقيقة أن الجيش الذي لا يُقهر يمكن أن يتلقى "زلزالًا" يغير عقليته إلى الأبد.