في صباح حار من صيف القاهرة عام 1952، استيقظ المصريون على وقع بيان من ضابط شاب اسمه محمد أنور السادات، يُعلن فيه عن قيام ثورة قادها "الضباط الأحرار". لم يكن الأمر مجرد تغيير في الحكم أو نهاية لعهد ملكي مهتز، بل بداية لتحول عميق في هوية الدولة، لا سيما في علاقاتها مع الخارج.
القاهرة... محطة على هامش اللعبة الكبرى
قبل ثورة 23 يوليو، لم تكن مصر تملك من استقلال القرار الخارجي إلا اسمه. كانت السفارة البريطانية في قلب القاهرة أشبه بمركز قيادة فعلي، تُدار منه شؤون السياسة والعلاقات. أما القصر الملكي، فقد بدا أقرب إلى واجهة منمقة بلا سلطة، في وقت كانت فيه القوى الكبرى تعيد رسم خريطة النفوذ في العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
لم تكن مصر حينها تبني تحالفات استراتيجية، ولا تطمح للريادة الإقليمية. اكتفت بلعب دور المراقب الصامت، وارتضت بالعلاقات الدبلوماسية الشكلية مع جيرانها العرب، بينما تنظر إليها لندن كـ"درة التاج" في مستعمراتها القديمة.
ناصر... الحلم الذي استيقظ من تحت ركام الاحتلال
حين بدأ نجم جمال عبد الناصر في الصعود، كانت رؤيته للسياسة الخارجية مختلفة تمامًا. لم يعد مقبولًا أن تكون مصر تابعًا أو متفرجًا، بل يجب أن تكون زعيمة، صوتًا لمن لا صوت له في أفريقيا وآسيا والعالم العربي.
كانت قمة باندونج 1955 إعلانًا واضحًا لهذا التوجه. هناك، إلى جانب قادة الهند ويوغوسلافيا وإندونيسيا، وُلدت حركة عدم الانحياز، ومصر في القلب منها. لم تكن المسألة مجرد موقع جغرافي، بل مشروع تحرري حمله ناصر على كتفيه، مساندًا الثورات في الجزائر وفلسطين والكونغو واليمن.
السعودية... صديق وشقيق وعدو أحيانًا
لكن الطموح المصري لم يكن بلا كُلفة. في الخليج، حيث كانت المملكة العربية السعودية تمثل نموذجًا محافظًا وملكيًا، بدت الثورة المصرية تهديدًا أكثر منها شريكًا.
كانت أزمة "المحمل" – وهي القافلة المصرية التي كانت ترسل كسوة الكعبة سنويًا – بمثابة الشرارة الرمزية الأولى. السعودية رأت في تقاليده "بدعًا"، بينما رأى عبد الناصر في موقفها تحديًا للكرامة المصرية. فقرر إلغاء المحمل نهائيًا، في خطوة حملت أكثر من معنى: مصر الجديدة لا ترضى بالإهانة، ولا تقبل التبعية، حتى لو كان الثمن خلافًا مع الحرمين الشريفين.
اليمن... حرب بالوكالة على أرض العرب
ثم جاءت اليمن، حيث تفجّرت الحرب الأهلية عام 1962، فوجدت مصر والسعودية نفسيهما في خندقين متقابلين. عبد الناصر أرسل آلاف الجنود دعمًا للجمهورية الوليدة، بينما دعمت الرياض الملكيين. لم يكن هذا مجرد نزاع محلي، بل اختبارًا إقليميًا للنفوذ والهيمنة.
لكن الثمن كان باهظًا. استُنزفت مصر عسكريًا واقتصاديًا، وكانت تلك بداية الانهاك الذي مهّد لهزيمة 1967 أمام إسرائيل.
السادات والسعودية... عودة الدفء
بوفاة عبد الناصر عام 1970، وتولي أنور السادات الحكم، بدأت مصر تعيد صياغة أوراقها. اختفت الشعارات الثورية تدريجيًا، وحلّت محلها لغة المصالح. وفي حرب أكتوبر 1973، ظهرت السعودية من جديد، ولكن كحليف، لا خصم. دعمها المالي والنفطي كان حاسمًا في المعركة.
اليوم... ذاكرة الخلاف وشراكة الضرورة
بعد أكثر من سبعين عامًا على ثورة يوليو، لا تزال السياسة الخارجية المصرية تسير على طريق عبد الناصر، وإن بملامح أكثر براغماتية. ورغم تقلب العلاقات مع السعودية، من الصدام إلى التحالف، إلا أن الرابط بين البلدين ظل راسخًا، تشكّله الضرورات الجيوسياسية، والهوية العربية الإسلامية المشتركة، والمصالح الاقتصادية والأمنية التي لا غنى عنها لأي من الطرفين.
مصر ما بعد يوليو لم تعد تلك الدولة التابعة، لكنها أيضًا لم تنجُ من تعقيدات القيادة. وبين الطموح الواقعي والأحلام الكبيرة، ظلت السياسة الخارجية مرآة لمشروع قومي بدأ ذات صباح في 1952... ولا يزال.