شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وفنزويلا تحولات جذرية منذ النصف الثاني من القرن العشرين. فقد كانت كاراكاس وواشنطن شريكتين وثيقتين في القضايا الأمنية خلال الحرب الباردة، حين سعت الولايات المتحدة إلى كبح النفوذ الشيوعي في أميركا اللاتينية. وبفضل موقعها الجغرافي وأهميتها كمصدر رئيس للطاقة، فضلاً عن تبنيها النظام الديمقراطي عقب سقوط الحكم الديكتاتوري عام 1958، برزت فنزويلا بوصفها الحليف الأمثل لواشنطن.

ارتكزت الشراكة الثنائية على التعاون العسكري والتبادل الاستخباراتي والتدريب المتقدم. إذ ساعدت فرق استشارية أميركية في تطوير قدرات الجيش الفنزويلي، وتلقى طيارو فنزويلا تدريبات على الطائرات الأميركية، كما أتيحت لها امتيازات شراء معدات قتالية متطورة أبرزها مقاتلات "إف-16"، في وقت لم تكن فيه معظم دول المنطقة تتمتع بهذه الميزة. كذلك، كان البلدان يعملان بشكل متناسق في مكافحة تهريب المخدرات، إذ تمركز ضباط أميركيون في القواعد الفنزويلية لمتابعة العمليات المشتركة، وتوطدت العلاقة عبر مناورات بحرية مثل تدريبات "يونيتاس"، ما جعل من هذا التعاون نموذجاً استثنائياً في نصف الكرة الغربي.

وصلت متانة العلاقة إلى حد أن البعثة العسكرية الأميركية كانت تمارس مهامها انطلاقاً من مجمع فويرتي تيونا العسكري في قلب كاراكاس، وهو ما عكس الثقة العالية بين الطرفين. غير أن هذه المرحلة الذهبية للعلاقات الثنائية لم تدم طويلاً، إذ مهدت التحولات السياسية في فنزويلا مع مطلع الألفية الجديدة لانقلاب جذري في مسار العلاقات.

المنعطف الحاسم: صعود شافيز إلى السلطة
أحدث انتخاب هوغو شافيز رئيساً عام 1998 تغييراً كبيراً في توجهات فنزويلا الداخلية والخارجية. فقد جاء شافيز، الضابط السابق الذي قاد محاولة انقلاب فاشلة عام 1992، مدعوماً بتأييد شعبي واسع، مقدماً مشروعاً سياسياً حمل اسم "البوليفارية" يهدف إلى تعزيز سيطرة الدولة على الموارد الطبيعية، وإرساء نموذج من "الاشتراكية الديمقراطية"، وتأكيد استقلال البلاد عن النفوذ الأميركي الذي اعتبره شكلاً من أشكال الهيمنة الإمبريالية.

على المستوى الدفاعي، قاد شافيز خطة لإعادة هيكلة الجيش بما يخدم رؤيته السياسية، كما عمل على تنويع مصادر التسليح وتقليص الاعتماد على المعدات الأميركية. وامتدت استراتيجيته إلى توطيد العلاقات مع كوبا وبناء شراكات مع روسيا والصين وإيران، والدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب يحد من التفوق الأميركي.

أحداث مفصلية في مسار الانفصال
ساهمت سلسلة من المحطات المهمة في تدهور العلاقة بين البلدين بوتيرة متسارعة.
ففي عام 1999، وبعد كارثة الفيضانات التي أودت بحياة الآلاف في ولاية فارغاس، قبل شافيز بالمساعدات الإنسانية الأميركية في البداية، ثم رفض أي وجود عسكري أميركي إضافي، معتبراً ذلك مساساً بالسيادة الوطنية، وهو ما شكل أول تصدع حقيقي في الشراكة.

وفي عام 2001، اتخذ شافيز خطوة رمزية قوية حين أمر البعثة العسكرية الأميركية بمغادرة فويرتي تيونا، لتنتهي بذلك خمسة عقود من الوجود العسكري الأميركي الدائم في فنزويلا. ثم جاء عام 2002 ليشكل نقطة توتر حادة حين أطاحت محاولة انقلاب قصيرة بشافيز، وأعلنت واشنطن اعترافها السريع بالحكومة المؤقتة برئاسة بيدرو كارمونا. ورغم نفي الولايات المتحدة ضلوعها المباشر في الانقلاب، اعتبر شافيز ذلك دليلاً على نوايا عدائية، مما عمّق أزمة الثقة بين الجانبين.

تواصل التصعيد في الفترة 2004-2005 عندما طردت كاراكاس المستشارين العسكريين الأميركيين، وأنهت برامج التعاون في مكافحة المخدرات، وأوقفت التدريبات المشتركة. كما أقالت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية بحجة تورطها في أنشطة تجسسية. وردت واشنطن عامي 2005 و2006 بفرض حظر على تصدير الأسلحة وقطع الغيار إلى فنزويلا، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى شراء أسلحة ومعدات من روسيا، وهو ما زاد من ابتعادها عن المدار الأميركي.

مرحلة ما بعد شافيز واتساع الهوة
لم يؤد رحيل شافيز عام 2013 إلى تهدئة التوتر، إذ ورث خليفته نيكولاس مادورو المشروع السياسي نفسه، لكنه واجه تحديات اقتصادية غير مسبوقة. فقد أدى انهيار أسعار النفط وسوء الإدارة وتفاقم العقوبات الدولية إلى أزمة اقتصادية خانقة وتضخم مفرط وهجرة ملايين الفنزويليين إلى الدول المجاورة.

أطلقت واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترمب سياسة أكثر تشدداً، تمثلت في الاعتراف بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيساً مؤقتاً، وفرض عقوبات صارمة على قطاع النفط ومسؤولين كبار في الدولة، وهو ما جعل سياسة "تغيير النظام" هدفاً معلناً وليس مجرد توجه خفي. وباتت العلاقات العسكرية شبه معدومة، بينما ركزت الولايات المتحدة على دعم دول الجوار في مواجهة تداعيات النزوح الفنزويلي الضخم.

تراجع المساعدات وتجارة الأسلحة
شهدت المساعدات العسكرية الأميركية لفنزويلا تراجعاً مستمراً منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، لتنهار بالكامل بعد 2003. وتم تعليق برامج تدريب الضباط الفنزويليين في الولايات المتحدة، وانخفض تمويل مكافحة المخدرات من نحو 12 مليون دولار عام 1999 إلى الصفر تقريباً بحلول 2012. وبالمثل، توقفت تجارة الأسلحة الأميركية مع كاراكاس عقب الحظر الذي فرض عام 2006، فاتجهت الأخيرة إلى السوق الروسية والصينية لشراء مقاتلات ومروحيات وبنادق هجومية، لتصبح أكبر مستورد للسلاح في أميركا اللاتينية بحلول 2007. وزاد الوجود الروسي في البلاد بإرسال قاذفات استراتيجية ومستشارين عسكريين، بينما تم دمج عناصر استخباراتية كوبية في هياكل الجيش الفنزويلي.

مرحلة خطيرة: مواجهات سبتمبر 2025
بلغ التوتر ذروته في سبتمبر 2025 عندما شنت القوات الأميركية هجوماً على سفينة في الكاريبي، أسفر عن مقتل أحد عشر شخصاً. وصرحت واشنطن بأن السفينة كانت مرتبطة بكارتل "ترين دي أراغوا" وتقوم بتهريب المخدرات إلى الأراضي الأميركية. ونشر الرئيس ترمب تسجيلات للهجوم ورصد مكافأة قدرها 50 مليون دولار لمن يقدم معلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو، الذي لا تزال الولايات المتحدة ترفض الاعتراف بإعادة انتخابه عام 2024.

أثارت هذه الضربة جدلاً واسعاً بين خبراء القانون الدولي، الذين أشاروا إلى احتمال انتهاك واشنطن لقانون البحار واتفاقيات حقوق الإنسان، نظراً لوقوع العملية في المياه الدولية ومن دون حالة حرب معلنة. ومع ذلك، نفذت الولايات المتحدة ضربة ثانية في 15 سبتمبر، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص آخرين، وأكد ترمب أن الأدلة دامغة وأن واشنطن "متأكدة بنسبة 100 في المئة" من هوية الأهداف، محذراً من عمليات إضافية قد تشمل ضربات داخل الأراضي الفنزويلية.

ردت حكومة مادورو بقوة، ووصفت الضربات بأنها عدوان يستهدف تبرير تغيير النظام. وأرسلت طائرات مقاتلة للتحليق فوق مدمرة أميركية، واتهمت البحرية الأميركية بالاستيلاء على قارب صيد فنزويلي، كما دعت المواطنين للانخراط في الميليشيات المدنية للدفاع عن البلاد. وظهرت تقارير عن ضغوط على موظفي الدولة للانضمام إلى هذه المجموعات.

تحليل دلالات التصعيد
يمكن النظر إلى هذه الخطوات باعتبارها محاولات متبادلة لإظهار الحزم وبناء سمعة رادعة. ففي النظام الدولي القائم على الفوضى، غالباً ما تسعى الدول إلى إظهار القوة خشية أن يؤدي التراخي إلى تشجيع الطرف الآخر على مزيد من الإكراه. غير أن مثل هذه السياسات ترفع خطر سوء التقدير والدخول في مواجهة مباشرة قد تخرج عن السيطرة.

في الداخل الأميركي، تصاعد الجدل حول صلاحيات الرئيس، حيث رأى معارضون أن ترمب تجاوز الكونغرس وانتهك "قرار سلطات الحرب". بينما اعتبر مؤيدوه الضربات ضرورية لحماية الأمن القومي ومواجهة ما أسموه "إرهاب المخدرات".

المستقبل المفتوح على التصعيد
مع تزايد الحشد العسكري الأميركي في الكاريبي واستمرار التصريحات العدائية بين الطرفين، يلوح خطر التصعيد في الأفق. التاريخ مليء بأزمات بدأت بحوادث محدودة في البحر أو الجو ثم تحولت إلى مواجهات واسعة. ويحذر محللون من أن أي خطأ في حسابات الطرفين قد يجر المنطقة إلى نزاع لم تشهده منذ عقود.

وبالنظر إلى مفهوم الردع وبناء السمعة في أدبيات العلاقات الدولية، يُرجح أن تتمسك فنزويلا برد قوي للحفاظ على مصداقيتها، ما قد يؤدي إلى حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل. وفي حال فشل الدبلوماسية ووساطات الأطراف الثالثة في كبح هذا المنحى، قد يصبح الصدام العسكري أمراً واقعاً، ما يثير تساؤلات حول تداعياته على استقرار أميركا اللاتينية والنظام الدولي برمت