في كل عام، ومع حلول الثالث والعشرين من يوليو، تستعيد مصر ذكرى إحدى أعظم لحظاتها الفارقة: ثورة 23 يوليو 1952، التي شكّلت نقطة تحوّل محورية في تاريخ الوطن. لم تكن مجرد انتقال من حكم ملكي إلى نظام جمهوري، بل كانت انبعاثًا جديدًا لدولة تقودها الإرادة الشعبية، وتُدار بروح الاستقلال والسيادة الوطنية.

جاءت الثورة نتيجة تراكم طويل من الظلم الطبقي، والاحتكار السياسي، والتبعية الاقتصادية، فجاءت لتُصحح المسار وتُعيد لمصر موقعها الطبيعي بين الأمم، كدولة ذات قرار مستقل ومؤسسات حديثة، تسعى للنهضة والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. فكانت الجمهورية الوليدة مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا يُقصي أحدًا، بل يُرسخ قيم المساواة، ويفتح المجال للمواطنة الحقيقية.

الأميرات بعد الثورة.. بين الغربة والبحث عن الذات

في زخم هذا التحول العميق، كانت هناك قصص إنسانية صامتة لم تحظَ بالتوثيق الكافي، من أبرزها حكايات أميرات القصر الملكي. هؤلاء النسوة وجدن أنفسهن فجأة في مواجهة واقع جديد، انتقلن فيه من أروقة القصور إلى منافٍ بعيدة، ومن دائرة الحكم والنفوذ إلى حياة مدنية عادية، لم تكن دومًا سهلة أو واضحة الملامح.

مع إعلان الجمهورية، بدأت فصول جديدة في حياة نساء الأسرة الملكية. الأميرات اللواتي نشأن في ظل الألقاب والطقوس الملكية وجدن أنفسهن أمام واقع لا مكان فيه للامتيازات الوراثية. بعضهن غادر مصر في صمت واستقر في مدن أوروبية وأمريكية، بعيدًا عن الأضواء والسلطة.

فعلى سبيل المثال، غادرت الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق، إلى إيران ثم سويسرا، حيث عاشت حياة هادئة بعيدة عن السياسة. أما الأميرة فريال فاتخذت من فرنسا وسويسرا موطنًا بديلًا، متنقلة بين باريس وجنيف. الأميرة فتحية انتقلت إلى كاليفورنيا، قبل أن تُقتل في حادث مأساوي. في حين واجهت الأميرة نعمت الله تقلبات الحياة المدنية، إذ تزوجت خارج الأسرة المالكة، وانتهى زواجها بالطلاق.

زيجات خارج البروتوكول.. كسر قواعد النسب والسلطة

بعد الثورة، تغيّر مفهوم الزواج الملكي. لم تعد الزيجات أدوات لتحالفات سياسية كما كانت في العهد الملكي، بل أصبحت اختيارات شخصية تعكس تغيرًا ثقافيًا واجتماعيًا فرضه الواقع الجمهوري.

الأميرة فوزية، بعد طلاقها من شاه إيران، ارتبطت بضابط مصري. الأميرة فايزة اختارت دبلوماسيًا سويسريًا. أما الأميرة فتحية فتزوجت من مواطن أمريكي رغم معارضة أسرتها، وانتهت حياتها بوفاتها على يد زوجها. الأميرة نعمت الله أيضًا تزوجت مدنيًا، ولكن العلاقة لم تدم طويلًا. هذه الزيجات، رغم صعوباتها، حملت دلالات على الانفتاح وتغير معايير الاختيار.

من الثروة إلى الرمزية.. تصفية الإرث الملكي

أحد أبرز معالم الجمهورية الجديدة كان تفكيك بنية الامتيازات الاقتصادية للأسرة الملكية. لم يكن الهدف الانتقام، بل تنفيذ رؤية وطنية لتوزيع الثروات بشكل عادل.

القصور الملكية تحولت إلى متاحف ومؤسسات عامة مفتوحة أمام الجميع، والمجوهرات نُقلت إلى متحف المجوهرات الملكية كجزء من تراث الأمة. الحسابات البنكية خضعت للرقابة والمصادرة ضمن خطة إصلاح اقتصادي شاملة. هذه الإجراءات بيّنت أن الدولة الجديدة لم تكن ضد الأشخاص، بل ضد الامتيازات المتوارثة التي تُخالف مبدأ العدالة الاجتماعية.

الإهانات الصامتة.. المواقف الصادمة بعد الثورة

رغم أن الدولة تعاملت مع الأسرة الملكية بالقانون، إلا أن بعض المواقف الإنسانية التي تعرضت لها الأميرات حملت أبعادًا قاسية.

الأميرة فوزية طُلب منها مغادرة قصرها خلال ساعات وتم تقييد حركتها. الأميرة فريال اضطرت للعمل كمدرسة دروس خصوصية في سويسرا. الأميرة فتحية عاشت في عزلة وفقراً بعد زواجها، وانتهت حياتها بجريمة قتل. أما الأميرة نعمت الله، فنُقلت بين عدة دول، قبل أن تستقر في شقة صغيرة في باريس.

الدوقة فضيلة: من أروقة العرش إلى أرصفة الطرد

من بين أكثر القصص مأساوية، تبرز قصة الدوقة فضيلة، الزوجة السابقة للملك فؤاد الثاني، والتي واجهت الإخلاء من شقتها في باريس بسبب عجزها عن دفع الإيجار. الصحف الفرنسية وثّقت مشهد نقل أثاثها إلى الرصيف، وسط صدمة إنسانية. الأكثر إيلامًا، أن الملك فؤاد نفسه أصدر بيانًا يتبرأ فيه منها، مؤكدًا أنها لم تعد تحمل أي لقب ملكي.

الأميرة فادية: أميرة على الهامش

أما الأميرة فادية، أصغر بنات الملك فاروق، فقد عاشت حياة متواضعة في سويسرا. عملت مترجمة، تنقلت بالمواصلات العامة، واعتمدت على راتب محدود، دون أي دعم من العائلة أو الدولة. توفيت عام 2002 في صمت، كما عاشت على هامش الذاكرة العامة.

الجمهورية الجديدة.. كرامة المواطن أولًا

لقد أعادت ثورة يوليو تعريف الانتماء الوطني. لم تُبنى الدولة على فرد أو أسرة، بل على مفهوم "المواطن". قصص الأميرات رغم ما فيها من ألم، تُعد جزءًا من التكلفة البشرية لتحول اجتماعي ديمقراطي، أنصف الملايين من الفلاحين، العمال، النساء، والطلاب.

جمال عبد الناصر وقادة الثورة أيقنوا أن بناء دولة قوية لا يتم إلا بتفكيك الامتيازات الطبقية، وإعلاء شأن الكفاءة والانتماء لا الحسب والنسب.

الجمهورية تبني، لا تهدم

بعد أكثر من سبعة عقود، لا تزال ثورة يوليو حيّة في الوجدان المصري، لأنها لم تكن لحظة سياسية عابرة، بل تأسيسًا لدولة حديثة. وبينما نحتفي بما أنجزته الجمهورية، لا يمكننا إغفال الجانب الإنساني من الحكاية، حيث تظل قصص الأميرات صفحة مؤثرة تُذكّرنا بأن لكل تحوّل تاريخي ضريبة بشرية، وأن الثورة في جوهرها لم تكن ضد أشخاص، بل من أجل الجميع.