لم يكن التغيير مقتصرًا على الحكم والنظام السياسي فحسب، بل امتد ليشمل الوعي الجمعي والثقافة الشعبية، وعلى رأسها السينما، هذا ما أدركه الرئيس جمال عبد الناصر مبكرًا، عقب قيام ثورة 23يوليو عام 1952،  أن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة تأثير قوية تخاطب العقول ويمكن من خلالها السيطرة على الشعب وهويته بطريقته غير مباشرة.


السينما كذراع ناعمة للثورة


بعد أن تولى الرئيس جمال عبد الناصر الحكم، أدرك جيدًا قوة السينما في التأثير على الجماهير، وخاصة في بلد يمتلك واحدًا من أكبر القطاعات السينمائية في المنطقة.
فقرر أن يستغل هذه الأداة السهلة وتطويعها لحساب مصلحته السياسة وتوجيه الشعب، بداية من مهاجمة الفكر الملكي والمتبقي من أنصاره في الشارع، من جهة أخرى الترسيخ لمبادئه التي أتى بها للثورة.
فأسّس "عبد الناصر"، منظومة رقابية محكمة على الإنتاج السينمائي، فتم توجيه الأعمال لخدمة "رسالة الدولة، ومنها جاء تأسيس"مؤسسة دعم السينما" والتي عن طريقها تم إنتاج أفلام تحدثت عن العدوان الثلاثي ومنها سلسلة أعمال مختلفة تدعم الثورة مثل "السمان والخريف" وغيرها من الأعمال.
ولم يقتصر الأمر على حالة التوجيه التي أقرها، بل أنها أتت من إيمان جيل مخرجي الخمسينات والستينات من الشباب المؤمنين بمبادئ الثورة، مثل صلاح أبو سيف، عز الدين ذو الفقار، أحمد بدر خان، نيازي مصطفى.
وبالتالي ظهرت الأعمال التي تجمد بصورة الزعيم متمثلة في "عبد الناصر"، والثورة ومبادءها من اتجاه أخر، وكان أبرزها، رد قلبي، بورسعيد، فتوات الحسينية، الله معنا، وغيرها من الأعمال.


تأميم السينما 


مع قرارات التأميم للكثير من القطاعات في مصر عقب الثورة، جاء دور قطاع الإنتاج الفني، والذي انهى حالة الإنتاج المتنوع والشركات مثل شركة أفلام مصر العالمية التي أسسها المنتج والمخرج الإيطالي ماريو لاندو، وشركة ستديو مصر، والشركة المنتجة العربية لنجيب الريحاني ومؤسسة التوزيع السينمائي أيضًا، مع الإبقاء على الاستديوهات والشركات الصغيرة في ملكية أصحابها.
وبعدها تم إنشاء المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1962، لتتولى هي بعد ذلك زمام أمور عملية الإنتاج السينمائي في مصر بشكل عام، وتخرج منها الأعمال التي تكشف تفاصيل حقبة الستينات وما بعدها من عهد ناصر من وجهة نظر الدولة.
وقال الناقد الفني رامي المتولي، لـ"خمسة سياسة"، أن حقبة عبد الناصر السينمائية، طالها الكثير من الأخطاء كما طالها الكثير من النجاحات، فلا يمكن الحكم عليها قولًا واحدًا أنها تجربة سيئة، فهي كجزء من تجربته بشكل كامل حاول أن يجعلها حصنًا منيعًا أمنًا له يضمن الشعبية والعقل الجمعي المصري.
مُضيفًا، أنها بالتأكيد شابتها بعض الأخطاء الجسيمة التي لا يمكن التغاضي عنها، مثل تأميم شركات الإنتاج، وخروج أفلام من اتجاه موحد، حتى وإن حاول تبييض وجه النظام بخروج أفلام مثل "شئ من الخوف" وقيامه بإعطاء أوامر مباشرة بعرضه وما شابه ذلك من حوادث.


التحرر من قبضة ناصر 


مع حالة الكبت الفني التي عاشتها مصر حتى النكسة وبعدها بقليل، أصبح هناك كاميرات مخرجين مستقلة تريد الخروج من القبضة التي وضعها نظام "ناصر" فوق رؤوسهم ولكن كان الحصار أكبر من خروج أعمال نتنقد النظام بشكل مباشر وقوي.
فكانت الانفراجه مع عهد الرئيس محمد أنور السادات وانتهاء عصر عبد الناصر، ليخرج المارد من القمقم، ويستغل السادات أفلام القمع لما سبقه من حكم في توطيد أواصر حكمه ودعمه في مواجهة الاتحاد الاشتراكي، لتخرج أفلام خبايا ثورة يوليو للنور، لنرى منها "الكرنك"، "إحنا بتوع الاتوبيس"، "الليل الاخير"، "زائر الفجر"، لينكشف الوجه الأخر لنظام الزعيم وتتغير هيبته تمامًا على الشاشة.
وفي هذا قالت الناقدة ماجدة خير الله، أن قمع عبد الناصر ونظامه للأعمال الفنية مع وجود جيل واعي ومثقف من المخرجين حينها، خلق حالة من الغضب على الثورة التي أمن بها الجميع، ومع النكسة تحول المجتمع بشكل كلي، وكان الإحباط سائد بين الشعب.
وأضافت، أن الأعمال التي خرجت للنور فيما بعد كانت بشكل انتقامي من الظام نكاية في نظام عبد الناصر، ولكنها كانت معبرة عن أوضاع وطن، وأطاحت بصورة الزعيم الذي لا يوجد له مثيل من وجهة نظر الشعب.


الإطاحة بالملكيين
مع تقدم عبد الناصر في الحكم أيضًا خشي الفنانين من أنصار الملك من تغير الأوضاع ومحاولة التضييق عليهم، فكان أول هؤلاء يوسف وهبي، الذي قرر التعامل ، وكذلكل ليلى مراد التي لاقت بعض التضييقات طبقًا لأصولها اليهودية، وأنور وجدي الذي ناصر الملكية لتنتهي حياته قبل أن يدخل المشروع الناصري، ولكن لم يجرأ أحد من الفنانين على مخالفة نظام مصر الجديد حينها والذهاب لمواجهة عبد الناصر عن طريق عمل فني في مصر أو خارجها.