في ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، تتجدد مشاعر الفخر بالتحول الكبير الذي شهدته مصر بإنهاء الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية، لكن خلف صور الزعماء المعروفين، هناك ضباط شاركوا بفاعلية في لحظة الانقلاب على النظام القديم، قبل أن تتوارى أسماؤهم في الظل، إما بالإبعاد أو التهميش أو السجن. 

ونلقي الضوء اليوم على الضباط الأحرار الذين تم تهميشهم بعد الثورة، كما نسلطه على أدوارهم التي لا تقل أهمية عن القادة البارزين، ونبحث في الأسباب السياسية والتنظيمية التي دفعت بعضهم إلى الاختفاء من المشهد العام، رغم أنهم ساهموا في صناعة التاريخ.

يوسف صديق.. بطل اللحظة الحرجة والمنسي الأكبر

يُعد الضابط يوسف صديق أحد أبرز الأمثلة على الضباط الذين طواهم النسيان رغم قيام الثورة على أكتافهم، ففي ليلة 23 يوليو، تحرك صديق بقرار فردي مبكر واقتحم مقر قيادة الجيش في وقت حرج، وكان لتدخله السريع الفضل في إنقاذ التحرك الثوري من الفشل المبكر.

ورغم ذلك، لم ينل يوسف صديق ما يستحقه من التكريم، بل تم إبعاده عن مجلس قيادة الثورة بعد أشهر قليلة، بسبب اعتراضه على غياب الديمقراطية وتعاظم سلطة مجلس الثورة، وتعرض لاحقًا للإقامة الجبرية وتهميش سياسي واضح، قبل أن يغيب اسمه عن الروايات الرسمية.

جمال حماد.. المؤرخ الذي كتب بيان الثورة ونُسي اسمه

جمال حماد، أحد الضباط الأحرار، لم يكن فقط مشاركًا ميدانيًا في الثورة، بل كان صاحب صياغة البيان الأول الذي أُذيع من الإذاعة المصرية فجر 23 يوليو، البيان الذي أعلن فيه المصريون نهاية العهد الملكي كان بقلمه وصياغته، لكنه سرعان ما ابتعد عن السلطة، وكرّس حياته للعمل الأكاديمي والكتابة، وظل اسمه غائبًا عن التكريم الرسمي لسنوات طويلة.

حسين الشافعي.. من القيادة إلى الهامش

رغم أن حسين الشافعي تولى مناصب وزارية ونائبًا لرئيس الجمهورية في عهد عبد الناصر والسادات، فإن حضوره الإعلامي والتاريخي بعد وفاته ظل باهتًا مقارنة بباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة، كان الشافعي صوتًا عقلانيًا ومعتدلًا داخل المجلس، لكنه لم يُمنح مساحة كافية في كتب التاريخ أو الإعلام، وبقي دوره مغمورًا رغم إسهاماته في بناء الجمهورية الأولى.

صلاح سالم.. الضابط الذي احترق سياسيًا

صلاح سالم، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، لعب أدوارًا مهمة في المفاوضات مع السودان وقضايا الوحدة العربية، لكنه تورط في أزمات سياسية واتهامات أضعفت صورته، مما أدى إلى تراجعه عن المشهد، وتم تهميشه بهدوء رغم مشاركته في قرارات مصيرية، وغاب ذكره في سردية الثورة الرسمية التي احتكرت البطولة لعدد محدود من الأسماء.

لماذا تم تهميش بعض الضباط؟

 

شهدت تجربة الضباط الأحرار، منذ لحظة انطلاق ثورة 23 يوليو 1952، تباينًا كبيرًا في مصائر أعضائها، فبينما لمع بعضهم في المشهد السياسي والعسكري والإعلامي، غابت أسماء آخرين وكأنهم لم يكونوا جزءًا من هذا التحول الجذري في تاريخ مصر. ثمة أسباب متعددة تقف خلف هذا التهميش أو النسيان، تأتي في مقدمتها الصراعات الداخلية داخل مجلس قيادة الثورة، حيث كانت الخلافات لا تُحل بالنقاش أو التوافق، بل غالبًا ما كان الحسم يتم عبر الإقصاء والتهميش، بما يضمن بقاء النفوذ بيد طرف واحد.

من أبرز العوامل أيضًا سيطرة فكرة الزعامة الفردية، خصوصًا في عهد جمال عبد الناصر، حيث أعيدت صياغة سردية الثورة لتدور حول القائد الأوحد، وبهذا تحولت الثورة من عمل جماعي إلى قصة رجل واحد، يعلو فيها صوته فوق أصوات الآخرين، ويُختزل فيها التاريخ في شخصه ورؤيته. هذا المنطق ساهم في تهميش عدد من الضباط الذين كان لهم دور فعلي ومباشر في صناعة الحدث، لكنهم لم يندرجوا تحت مظلة تلك الزعامة، ولم يسيروا في ركابها.

بعض الضباط المنسيين دفعوا ثمن مواقفهم التي عبّرت عن اعتراض واضح على بعض المسارات التي اتخذتها الثورة لاحقًا، خصوصًا ما يتعلق بغياب التعددية السياسية وفرض الأحكام العرفية وتقييد الحريات. هذه الأصوات المعارضة، وإن كانت من داخل الصف الثوري نفسه، اعتُبرت تغرد خارج السرب، فكان الإبعاد مصيرها، وصار السكوت عنها جزءًا من سياسة بناء السردية الرسمية.

كما لا يمكن إغفال أن بعض هؤلاء الضباط اتخذوا لاحقًا مواقف سياسية لم تتماشى مع النظام القائم، فاختاروا العزلة أو طُردوا منها، ومع تغير المواقف، تحوّلوا إلى أسماء غير مرغوب في ظهورها، لا في الإعلام ولا في الكتب الدراسية أو الوثائق الرسمية، وكأن مشاركتهم في الثورة قد مُسحت عمدًا من ذاكرة الدولة.

ورغم أن ثورة يوليو كانت لحظة فاصلة، أنهت الحكم الملكي وأسست للجمهورية، وواجهت الاستعمار ودعمت استقلال القرار الوطني في ظروف بالغة التعقيد، إلا أن الوفاء الحقيقي لقيم هذه الثورة لا يكون فقط بتكرار سرديتها الرسمية، بل بإنصاف جميع من ساهموا فيها، خاصة أولئك الذين لم تتسع لهم السلطة أو تباينت مواقفهم مع مسارها لاحقًا.

إن استعادة أسماء الضباط الأحرار الذين غُيّبوا أو تجاهلتهم كتب التاريخ لا تعني الانتقاص من رموز الثورة المعروفين، بل تعكس نضجًا في فهم التجربة وشفافية في التعامل مع الماضي، وتمنح الأجيال القادمة رؤية أكثر اتساعًا وعدلًا لما جرى. فالدولة التي تحترم تاريخها لا تُقصي من شاركوا في صنعه، بل تكرّمهم وتُخلّد ذكراهم، لأن التاريخ لا يُكتب للأبطال وحدهم، بل يُكتب للجميع.